أن تكون يعني أن تختار

تاريخ الإضافة السبت 13 آذار 2010 - 6:07 ص    عدد الزيارات 1651    التعليقات 0

        

مراجعة: عفيف عثمان

توسم فلسفة سارتر(1905 ـ 1980) عادة بالوجودية، لكن صلتنا العربية به قربته من وصف فيلسوف الحرية، اذ يجعلها حداً وتعريفاً لماهية الإنسان. ويقول في "الوجودية نزعة إنسانية" إن الإنسان محكوم بأن يكون حراً، محكوم لأنه لم يخلق من تلقاء ذاته، ومع ذلك فهو حر، لأنه ما إن يلقى(يترك/يهجر) في العالم هو مسؤول عن كل ما يفعله.
واذا ما رغبنا في استكناه دقائق منهجه الظاهراتي، الذي أسسه هوسرل، فعلينا الغوص والتعمق في مؤلفه الرئيس "الكينونة والعدم"(1943) وعنوانه الفرعي "بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية"، الذي ترك بصمات واضحة على الفلسفة الفرنسية في خمسينات وستينات القرن الفائت. وقد ترجم هذا النص الفلسفي الأساسي أول مرة الى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي عام 1966، ويعود د.متيني، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، في جهد يستحق الثناء والتقدير الى ترجمته مرة جديدة.
وفي السفر السارتري، نجد الحرية بوصفها محايثة للوجود. والإنسان كائن حر وجودياً "محكوم بأن يكون حراً"، لأنه لذاته(pour-soi)، يحوز على ملكة تجاوز كل لحظة في حياته وكل المواقف في مستقبل يعود له صنعه، مرجحاً بين الخيارات المعروضة أمامه، والإختيار هنا يُعادل أحياناً الحرية، ففي الحقيقة الإنسانية "أن تكون يعني أن تختار": الحرية الإنسانية تسبق ماهية الإنسان وتجعلها ممكنة، ويُدين سارتر موقف أولئك الذين يتجاهلون حريتهم ويلوذون خلف حتمية محددة كي لا يتحملون مسؤولية أفعالهم.
منذ الصفحات الأولى لبحثه يميز سارتر نفسه عن الفلاسفة الماهويين الذين يجعلون الماهية تسبق الوجود، ويتبنى منهجاً مختلفاً في التفكير رافضاً الثنائية بين الكينونة (lêtre) والظهور (paraître) التي تطرحها الأنساق الفلسفية والتي تبين "الظهور كسلب محض" أي ماهو غير الكينونة. واذ يتبع سارتر ظاهراتية هوسرل فأنه لا يُعلق مثله كل وجود جوهري. ففي نظر هذا الأخير يجب وضع الأشياء في ـ ذاتها بين مزدوجين من أجل البقاء في حضرة ما يُعطي العالم معناه أي الوعي المحض. أما عند سارتر فليس الإنسان إلا ما يظهر عليه وعلى الفيلسوف إظهار الحياة. والأشياء اذ تملك وجوداً، فأنها لا توجد من دوننا: فأنا من يعلم أنها موجودة وأنا من يُضفي عليها تالياً الوجود. وفي وسع الإنسان أن يُدرك نفسه في وجوهه المختلفة بوساطة وعيه، اذ أن حرية الوعي تمثل الميزة الأساسية للشرط الإنساني.
لا يعرض سارتر فلسفة كل من هيغل وهوسرل وهايدغر إلا ليتجاوزهم: فهو لا يجعل وعي الذات المطلق مصدراً لكل تحقق ومبدأ للوجود المادي مثل الوجود المنطقي ولا هو يبسط تحليلاً للدازاين ( الكائن ـ هنا Dasein الهايدغري) الذي يتحدد نسبة الى الكينونة. يريد سارتر أن يوكد على ثنائية جذرية بين الكائن كذاتية وكائن العالم، بين" في ـ ذاته "(en soi)الذي يظهر الحقيقة الخارجية و"من أجل ذاته" كقوة سلبية هي الذات الإنسانية المدعوة أن توجد كينونتها. وفي هذا الحوار النقدي مع الفلاسفة يسعى سارتر للكشف عن الوعي الفردي إنطلاقاً من تحليل متعيَن للمواقف التي نصادفها في حياتنا اليومية من منظور نفساني وأخلاقي.
يرفض سارتر وجود الأشياء في ذاتها ولا يؤمن بالكينونة التي تدعم الظاهرة:"كينونة الظاهرة تكمن في ظهورها نفسه" "الكينونة في مكان"، إنها كينونة الظواهر العابرة للظواهر، إنها كينونة هذه الطاولة وعلبة السجائر والمصباح، وهي بشكل عام كينونة هذا العالم الذي يستدعيه الوعي. بيد أن للكينونة وجهان: فثمة الكينونة في ذاتها(كينونة الظاهرة) وهي جملة الوقائع أو الوجود المباشر، يتبدى في سلسلة من الظواهر ويمكن تحديدها بأنها "ما ليست عليه، وبأنها ليست ما هي عليه"، وذلك مقابل صيغة تدل على كينونة الوعيَ. وثمة الكينونة لذاتها وهي حضور ـ في ـ العالم، لأن فيها جانباً من الإمكان، وهذا الإمكان يجعل الوجود هناك في العالم وجوداً مجانياً، ولكن الوعيَ هو من يضفي عليها معنى.
وللإنتقال من الكينونة في ذاتها الى الكينونة لذاتها سيرورة خاصة غايتها نفي الكينونة في ذاتها، أي نفي الثبات وغياب الحركة، وهذه السيرورة هي التعديم(من عدم) :"فما ينفيَه يعدمه"(المقصود الوعيَ).
واذا كانت كينونة الظاهرة تتبدى في ظهورها نفسه، واذا كان ثمة الكينونة فحسب، فما هو العدم إذاً؟ وهل يوجد عدم في ذاته؟ يرفض سارتر هذه الصيغة قطعياً، اذ العدم بالنسبة اليه سيرورة تدعمها الكينونة: العدم نمط من الكينونة يرفض تحديداً أن يكون. فإذا كان أمامي كرسي وطاولة، وأردت الكرسي، فحينها أنا "أعدم" الطاولة، ولكن هذا الأمر لا يجعلها غير موجودة، وبالتالي يؤكد الكائن وجوده عبر السلب "أن أجعل نفسي سلبياً في العالم، وأن أرفض أن يكون لي تأثير في الأشياء والآخرين، يعني أنني أختار ذاتي".
ورغم أن الإنسان لم يطلب أن يولد في العالم إلا أن سارتر يدعوه لتحمل مسؤوليته وحريته، فلا توجد "في الحياة مصادفات" والممكنات أمامنا كثيرة ويجب أن "تكون حاضرة دائماً معنا" في المواقف التي نواجهها. وأن الذي يُدرك ذاته ككائن ألقيت عليه مسؤولية، والذي ينقلب على وضعه ككائن متروك ومهجور، لن يكون سوى:"حرية تكشف ذاتها بشكل كامل، ويكمن وجودها في هذا الإكتشاف بالذات".

[ الكتاب: الكينونة والعدم (بحث في الانطولوجيا الفنومنولوجيا)
[ الكاتب: جان بول سارتر
[ المترجم: د.نقولا متيني
[ الناشر: المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,180,880

عدد الزوار: 6,759,342

المتواجدون الآن: 130