التقريب بين المذاهب الإسلامية

تاريخ الإضافة الأربعاء 17 آذار 2010 - 6:54 ص    عدد الزيارات 1583    التعليقات 0

        

ن ص
بدعوة من وزارة الأوقاف السورية بالتعاون مع «المجتمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية»، عقد في دمشق مؤتمر وقُدمت أوراق مختلفة، بحثت في المرجعية الفكرية لهذه الوحدة، والمرجعية النصية لهذا المبتغى. تنشر «السفير» ورقتي الشيخ عفيف النابلسي وجعفر فضل الله.
في مثل هذه الندوات، سعي لتجنب المزيد من الخلاف، ووقف لمزيد من التدهور، بين أتباع المذاهب الإسلامية. غير أن ما يتعين البحث فيه، قد يكون أكثر يسراً. إذا تطرق الباحثون إلى الوسائل المشروعة لإدارة الاختلاف، لأن «بناء الوحدة الإسلامية»، أمر قد يستحيل مستقبلا، كما استحال ماضياً.
يدلل تاريخ المعتقدات التوحيدية، يهودية، مسيحية وإسلامية، أن الاختلاف هو القاعدة، وأن الاتفاق هو استثناء قصير العمر زمنياً. ولعل هذا من طبيعة الأمور.. قد تكون المرجعية موحدة نصاً، غير أن مسالك «المؤمنين» متباينة، واجتهاداتهم مختلفة، ومصالحهم متصارعة، وبناهم متنابذة، وسلطاتهم متقاتلة.
المشكلة ليست في التوحيد، لأن التوحيد مسلّمة، واقتناع بها مبرم من قبل المؤمنين، المشكلة في التعدد وشرعيته، وفي الاختلاف وخصوصيته، وفي الافتراق وموضوعيته... إن الدين في نصه واحد، وفي التجسد التاريخي متعدد في الديانات كافة. وعليه، لعله من المجدي إبراز الخلافات على ما هي عليه، وهي كثيرة، وإظهارها على ما فيها من نقاء أو عداء، والتطلع إلى كيفية التعامل معها، بتفهم وقبول، من دون اللجوء إلى سيف التكفير، ونبش الموروث العدائي، وهو هائل في دمويته. ويتعين على النخب الدينية أن تخرج هذا الموروث العدواني المكتوم إلى السطح، ومعالجته على ضوء «حق الاختلاف»، وحق «قبول المختلف». ودون ذلك مشقة الاجتهاد العملي والرغبة في الالتقاء على الخلاف.
لن يتوحد المسلمون في مذهب. ولن يتوحد المسيحيون في طائفة. هذا من المستحيلات. ومنع الاختلاف والتمذهب والتطيف، مستحيل. وادعاء العصمة لفرقة ناجية، ينقصه التحديد، لأن كل مذهب يدعي أنه «الحق»، وأنه «الفرقة الناجية» ولا خلاص إلا بالتمذهب.
لذا، قد يكون من الصواب عقد ندوات مفتوحة، لإدارة الاختلاف، ضمن وحدة المجتمع، الإطار الجامع للمعتقدات والمذاهب كلها. أن النص لا يوحد. والمذاهب لا توحد. والطوائف لا توحد. وعليه، فإن قاعدة السلوك يلزمها تأمين مناخ الحرية، ومنع الدينونة البشرية للأفكار والاجتهادات.. لا أحد يحق له أن يدعي أنه الحق كله وأن الآخر ممتنع عن الحق. فالحقيقة، كما قال السيد محمد حسين فضل الله، هي بنت الحوار.
 

المنهج النبوي في بناء الوحدة

 

 
 
   
   
 

 

 
عفيف النابلسي
يتقد التحدي الصعب أمام علماء الأمة المستنيرين الذين يوسعون اليوم من مساحات الاشتغال بما هو خارج خط القسمة المذهبية المعهودة بين المسلمين. تحدٍ يحفر في سر الهواجس التي يمكث المسلمون داخل دوائرها, وفي سر الأسئلة التي تتجمع ملامحها على أرض مملوءة بركام هائل من الخلافات والنزاعات والتوترات التي تترمد الروح عند استحضارها, خصوصاً عندما يتم استدراك السنوات القريبة الماضية.
حقاً إن هؤلاء العلماء الآتين من مناشئ وبيئات متنوعة يستفحل السخط على من شذ منهم وعلا فوق رواسب الغريزة والعصبيات, إن هؤلاء العلماء يقتربون شيئاً فشيئاً على ما يمكن اعتباره جواباً عن سؤال كبير حيّر الأمة وأقعدها في وحول البله والعطالة. لماذا يشاء جعل الخلاف بين المسلمين في موقع النص القطعي الصدور والدلالة؟ وجعل الوحدة في موضع الاجتهاد المفتوح على التأويل والتخريب؟
امتياز من يجتمع اليوم على اسم الوحدة أنه يُحسن التلبث على صيغة ومشروع يتبدى المقبل الإسلامي من خلالهما وضاءً ومشرقاً وبهياً كما كان في زمن التأسيسات النبوية الأولى التي ما زال معظم المسلمين بعيدين عن التعامل معها في كثير من أبعادها وشواهدها, مكتفين ومحتفظين فقط بصورة المراقب عن بعد على تاريخ نبيهم وسيرته, من دون أن ينخرطوا في عمق تلك التجربة الثورية لتعديل شروط وجودهم وإمكاناتهم, في حاضر يتكاثر فيه ديانو التفرقة, ومن ادعى لنفسه نسباً قرآنياً وفقهياً وعقيدياً وحديثياً ولا يضطلع في أناء الليل وأطراف النهار إلا بحديث فيه نصيب وافٍ من إنماء الصفة الخاصة المغايرة, وما يباعد المسلمين بعضهم عن بعض ويُركبهم مركب التكفير والعنف. ومستقبل ينثني على حروب العدالة التي تبشر بالديموقراطية على أعتاب الدم والنفط! و«نضال» السوق! وعولمة الظلم بأشكال جديدة تطل على شبكة النزاعات والمصالح الاستكبارية.
فإن ما حل بالمسلمين من فقدان للمناعة الداخلية, وتقهقر مستمر, وهزيمة تتلو هزيمة, وغيبوبة عن المعطيات الحضارية الحديثة يؤكد أن أزمة المسلمين أزمة ثقيلة تستوجب النظر في عقليتنا نحن المسلمين وفي ثقافتنا وفقهنا وأخلاقنا وفي كل المناحي التي ترتبط بحياتنا الخاصة والعامة.
وإذا كان أمر المسلمين اليوم يتوقف على اجتذاب النهج النبوي والأخذ به كما هو معتقدنا, فإن هذا الاجتذاب لا يعني استجرار الماضي تأويلاً وتفسيراً وتصحيحاً فقط, بل يعني حضور هذا النهج في إبداع الحلول وصنع الحياة الحرة الكريمة للإنسان. ويعني أيضاً أن الإسلام سيكون خارج التأطير الضيق, وخارج النص البراغماتي الذي يستخدم للدفاع عن شخصية تاريخية أو حالة تاريخية بمعزل عن ميزان الحق والعقل. وإذا كان هذا مفهوماً فإن هذه الورقة تحاول الإضاءة على أهم المبادئ والمتكآت التوحيدية في مشروع النبي محمد (ص).
أولاً : الوحدة في العبادة:
إن من أسمى الطرق لتربية الإنسان وتزكيته وتخليته من سوداوية الجهل والشرك, وتنويره بالأنوار الملكوتية والهداية الإلهية, هي العبودية الخالصة لله تبارك وتعالى. وقد تصدى رسولنا الأكرم محمد (ص) من ضمن أهدافه الرسالية الكبرى لمهمة أساسية وهي توجيه الناس نحو عبادة الله الواحد الأحد. وعمل على تخليصهم من شوائب الشرك والانحراف في العبادة. ومن أجل أن يعرفهم مبلغهم استثار فيهم كل المرتكزات الفطرية والدلائل العلمية والبراهين العقلية لإثبات وحدانية الله ومنبع الوجود والغاية من خلق البشر. وأرسى قواعد التوحيد عبر منظومة واسعة من الشعائر العبادية التي تربط العبد بربه وتسيّره في مدارج الكمال. وعلى الرغم من تنوع أساليب العبادة وتعدد مجالاتها وتوسع أبعادها إلا أن الأبرز فيها ذاك الدافع الجماعي حين يحتشد المؤمنون في زمان واحد وفي ميدان واحد ونحو هدف واحد وباتجاه نقطة واحدة بانسجام واتساق كما هي الحال في الصلاة والصيام والحج. بتعبير موجز أن التوحيد في العبادة يُبرئ الإنسان من ملوثات ومؤثرات الشرك والانحراف, ويضعه في خط الهداية والصلاح والاطمئنان النفسي والكمال الذاتي.
ثانياً: الوحدة في القيادة:
تشكل مسألة القيادة في الإسلام شأناً حاسماً تتوقف عليها حياة المسلم ومصيره في النشأتين الدنيوية والأخروية. بل حياة الإنسان كله, لأن القائد الإسلامي ينظر ضمن سعة حاكميته إلى كل الأفراد مهما تنوعت أصولهم النسبية والعرقية والدينية بمقتضى مسؤوليته وواجبه الشرعي.
وقد اشتملت قيادة الرسول الأكرم محمد (ص) على حشد هائل من المرتكزات والمفاهيم النظرية والاختبارات والتطبيقات العملية في شتى الحقول والمجالات التي لم يسبق لأمة أن حصلت عليها بمثل هذا العمق والوضوح والشمول.
فنبي الرحمة محمد (ص) بسط على نحو الكفاية كل ما يمكنه ضمان سلامة حياة الإنسان واستقامته ونظافته وشرّع كل ما يقع في طريق تكامل الإنسان من الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات والمباحات، وما يطلق فكره في أسرار الفطرة, ويحرك شعوره في دنيا العدل والرحمة, وما يبلغه صلاحه وهدايته وسعادته من خلال منظومة المبادئ والقيم والتكاليف والحقوق التي تتجه لعلاقة الإنسان مع ربه ونبيه وقائده وأهله ومجتمعه وكل ما له دخالة بأبعاد الحياة الإنسانية المادية والروحية.
على مثل هذا السياق نتنبه أن القيادة المرجعية المحورية الجاذبة العالمة التي تتجمع فيها كل صفات الجمال والخير والخلق والشجاعة والحكمة هي المطلوبة والمبتغاة عقلاً, لتوقف مسائل الدين والدنيا عليها، فقيادة المجتمع البشري ليست من الأمور التي يمكن إيكالها إلى أي كان. وإذا كان من خللٍ وجهلٍ وتخلفٍ وتعصب وتشرذم وتنافر وتناحر يعيشه المسلمون اليوم هو بسبب تخليهم عن الشروط والمواصفات والمعايير الأخلاقية والإدارية والسياسية التي يجب أن يتحلى بها كل رئيس وقائد وزعيم مسلم بمعزل عن الاجتهادات الفقهية التي تطال شكل نظام الحكم وآلياته.
ثالثاً: الوحدة في المجتمع:
وضع الرسول جملة من المبادئ الضرورية في إطار عمله لبناء مجتمع متماسك مترابط متواد متراحم. وهذه المبادئ لا تتحدد في بيئة معينة وبجغرافيا خاصة وإنما هي صالحة لكل بيئة ولكل زمان ومكان.
فقد أمدّ الرسول (ص) المجتمع بالأفكار والقيم والأهداف التي تجعله دائماً في طور النمو والتطور والتحضر. وإذا أردنا بعجالة أن نشير إلى بعض المعالم المميزة في هذا المجتمع فنقول:
1ـ مجتمع يقوم على الاعتصام بحبل الله «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا»
فطريقة الدين الإسلامي وحقيقته تقوم على ارتباط العبد بربه على نحو دائم وتام تحصيلاً لرضاه.
2ـ مجتمع يقوم على الأخوة «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»
3ـ مجتمع يقوم على التعاون في طرق الخير والبر «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»
4ـ مجتمع تقوم فيه الفوارق على أساس التقوى والإيمان والعمل الصالح لا على أساس الامتيازات الدنيوية والاعتبارات الاجتماعية «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
5ـ مجتمع يحث أفراده على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ».
6ـ مجتمع يدفع أفراده للتعالي والسمو والمنافسة في دروب الطاعة والجهاد «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ».
7ـ مجتمع يقوم على العدل «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى».
8ـ مجتمع يرفض العدوان «وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».
9ـ مجتمع يأبى الضيم والهوان «وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ».
10ـ مجتمع متكافل «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».
11ـ مجتمع واثق بالمستقبل «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».
12ـ مجتمع متآلف «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
13ـ مجتمع صابر ومدافع عن حريم الدين «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
14ـ مجتمع يقاتل في سبيل الله «الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا».
15ـ مجتمع متسامح لا يفرض على أفراده اعتناق دين الإسلام بالقسر والإجبار «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
16ـ المجتمع الإسلامي مجتمع عالمي مفتوح على كل الأجناس والأعراق والألوان «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
17ـ مجتمع يسير على منهج الإسلام ويحتكم لشريعة السماء «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ».
18ـ مجتمع تقوم أساس محاوراته ومجادلاته على الحكمة والموعظة الحسنة «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».
إن حديثنا يجب أن يكون قد أوحى إلى حيث وصلنا منه, أن الوحدة كانت تامة الحضور في حركة الرسول (ص), وأثرها كان جلياً في مجال العبادة والسياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع والحرب والسلم وغيرها من المجالات حيث الاضطلاع بعبء تعدادها في هذه الورقة متعذر.
وليس من المنطقي ولا الصالح القول إن الوحدة في عقيدة النبي (ص) أرجحية اجتماعية وسياسية استحسنها النبي وقد انقضى عهدها, أو هي استثناء جرى في وسط حقل شديد الانفعال والتأثر بأسئلة الزمان والمكان, وبظروف العيش وطبيعة العلاقات القبائلية التي تكرس التفاوت الاجتماعي, وإن مآل المسلمين اليوم يأبى التوحد لأن خطوط الانقسام لا ترتضي لنفسها الالتقاء عند نقطة جامعة. عندها نكون قد ضربنا ما هو من مرتكزات الإسلام ألا وهو الأسوة الحسنة في رسول الله والسيرة النبوية التي تتصف بالديمومة والثبات (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة).
ليس مرمانا من بعد هذا إلا القول إنه لا يمكن الإغضاء عن مسألة هي في أساس وجود المسلمين وصلاحهم ونمائهم وصدارتهم, ولا يمكن أن يكون هناك استنهاض لأوضاعهم خارج إطار المنهج النبوي بأبعاده كافة, فلننظر إلى ما انتهت إليه حقيقة السيرة والسنة النبوية لا ما آلت إليه سبحة نزاعات الملوك والأمراء والرؤساء والتي جرَّت ما نحن لسنا بمنجى منها إلا إن آثرنا الاعتصام بحبل الله المتين.

 

ثلاثة أسس منهجيّة (1)

 

 
 
   
   
 

 

 
جعفر فضل الله
ليس من شكّ بأنّ في أصل إقامة الملتقيات والمؤتمرات التي تتناول الوحدة الإسلاميّة فائدةً في التلاقي والتواصل والتلاقح الفكري، ولا سيّما أنّ ذلك يمثّل مجالاً يستشعر فيه الجميع الروح الإسلاميّة الجامعة.
وليس من شكّ بأنّ موضوع الوحدة الإسلاميّة ـ كقضيّة ـ هو موضوع شائك، والعمل فيه لا بدّ أن يُراكَم نظريّاً وعمليّاً للوصول شيئاً فشيئاً إلى بناء منهجيّة مطبّقة عمليّاً للوحدة الإسلاميّة؛ خصوصاً أنّنا نتحدّث عن تراكم أكثر من ألف عامٍ من التنافر المذهبي والعصبيّة التاريخية وتداخل العوامل السياسيّة بالدينية وغيرها من الأمور التي تكاد تختصر كلّ تاريخنا الإسلاميّ، بعد رسول الله (ص)، أو بعد مرحلة الخلافة الراشدة ـ على الأقلّ ـ.
سأقتصر في هذه المقالة على عدد من النقاط التي أحسبها ضروريّة للانتقال من الناحية النظريّة إلى الناحية العمليّة في مسألة الوحدة الإسلاميّة، وفيها جزءٌ من النقد الداخلي للمنهجيّة التي نتعاطى فيها في تفكيرنا الاجتهادي عموماً داخل كلّ مذهب، أو في إدارة اختلافاتنا بين الأفكار المختلفة أو المذاهب المتنوّعة؛ وهي ثلاث نقاط:
الأولى: المرجعيّة الفكريّة.
الثانية: الحرّية والاستقلاليّة الفكريّة.
الثالثة: الإيجابيّة الفكريّة.
1ـ المرجعيّة الفكريّة
المسلمون متّفقون على اعتبار القرآن الكريم المرجعيّة العقيديّة والفكريّة والفقهيّة التي يرجعون إليها، ويحتكمون إليها. والقرآن هو المتداول بين أيدي المسلمين، سنّة وشيعة وغيرهم، وليس ثمّة قرآن غير ذلك.
ومن الواضح أنّ القرآن أسّس للوحدة الإسلاميّة عبر عدد لا بأس به من الآيات، كقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(2) ، وقوله تعـالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (3)، وقوله تعالى: (َإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّــهِ وَالرَّســُولِ إِن كُنتـُمْ تُؤْمِنُـونَ بِاللّهِ وَالْيَـوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ) (4)، وما إلى ذلك، ممّا نتّفق عليه نظريّاً، ونتلوه في كلّ مناسبات الوحدة الإسلاميّة كشعارات عامّة، ولكنّ المشكلة هي في أمرين:
الأمر الأوّل: إلى أيّ مدى يحضر القرآن الكريم ضمن آليّات تفكيرنا العقيدي والفكري؟ وما الذي يُمكن أن ينتج من مسألة الانسجام بين القرآن والسنّة؛ لوضوح أنّ السنّة لا تخالف القرآن، وفي حديث الإمام جعفر الصادق (ع) قال: «قال رسول الله (ص): إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(5).. وهذه المسألة مهمّة جدّاً؛ لأنّ معنى تأصيل الآليّات المتعلّقة بحاكميّة القرآن في العقيدة والمفاهيم يعني أنّ هناك هامشاً واسعاً لحركة المسلمين ـ على تنوّعهم واختلافهم ـ ينضبط فيه المسلمون متلبّسين في التفكير ضمن حدود هذا المصدر المعصوم الذي لا يناقش أحدٌ في مرجعيّته وأولويّته.
الأمر الثاني: إنّ معنى كون القرآن يمثّل المرجعيّة الفكريّة الحاكمة على كلّ نشاط الفكر الإسلامي، يعني أنّ من الضروري أن نتجاوز مرحلة العموميّات والشعارات، إلى اعتبار القرآن مرجعيّة تفصيليّة؛ لأنّ كلّ الأدبيّات التي ساهمت في تربية المسلمين من خلال القرآن، وكذلك من خلال السنّة ـ لأنّ هذا المجال ممّا لا نكاد نختلف عليه في هذا الجانب أيضاً ـ سنجدها حاضرةً في أي ّمشروع عمليّ للوحدة الإسلاميّة.
وعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ سنجد عدم تربية المسلمين أنفسهم وعدم ضبط أدائهم في حدود قوله تعالى: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(6) ، سمح للكثيرين منّا بتجاوز حدود الحجج والبراهين في الاعتقاد والتفكير، حتى تبنّينا أفكاراً قد لا تكون أكثر من مشهورات لا أصل لها، وعندئذٍ نكون من ضمن من ذمّهم الله وأشار إليهم في قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)(7).. ومثالٌ آخر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (8)، نجده شاهداً آخر على أنّ تجاوزه سمح ـ عبر تاريخ الصراع المذهبي ـ بقبول كثير من المنقولات والأكاذيب عن هذا الرمز أو ذاك لمجرّد الاختلاف معه مذهبيّاً، حتّى أصبحنا لا نرى في الإطار المذهبيّ الذي تنتمي إليه أيّ فضيلة لمن ينتمي للإطار الآخر، وأصبحت التُّهمة هي الأساس في التعاطي الإسلامي بين أتباع المذاهب.
2ـ الحرّية والاستقلاليّة الفكريّة
لا بدّ لنا ـ بناء على مرجعيّة القرآن أيضاً ـ أن نتساءل: هل يُمــكن الــيوم أن نتقبّل فكرة إغلاق باب الاجتهاد الفكري والفقهي وحتّى العقيدي؟
إنّ مدلول إغـلاق باب الاجتهاد هو الحُكم المسبق بنهائيّة أي فكــرٍ في إطار مرحلة زمنيّة ما، أو في نتاج أشخاصٍ محدّدين، لهم بِنية تفكير وثقــافة قد تختــلف أو تتطوّر بفعل تطوّر الفكر والثقافة عبر الزمن.. وهذا أمرٌ غير مقبولٍ من الناحية الإنسانيّة؛ بل هو خلاف حركة العقل الذي يبدو أنّ الله خلقه متحفّزاً وفعّالاً حتى يكاد الإنسان لا يملك أن يدفع الفكرة التي تطرأ على عـقله مهــما كانت متطرّفة نسبةً إلى بنيته أو ثوابته الاعتقاديّة أو الفكريّة.. وهذا الأمر قد يوحي بأنّنا أمام جمود في حركة التطوّر الفكري عبر الزمن، وهذا الذي قد أدّى بأتباع المذاهب الإسلاميّة، سواء كانت سنّية أو شيعيّة(9)، بالتحرّك وفق نظام الحواشي، حيث حكم ذلك النتاجَ الفكري في حدود النتاج الفكري للسلف بما أثّر على حيويّة الإبداع والاستقلاليّة في العقل الفكري أو الفقهي أو الأصولي، بما قد يكون مسؤولاً أيضاً ـ بشكل وبآخر ـ عن التعمّق في الدِّين بما يُشبه الغلوّ أحياناً.
لا بد من الدفع باتّجاه إلغاء ما يُسمّى بالحالة المذهبيّة الجامدة؛ لتحلّ محلّها الحالة الاجتهاديّة المتحرّكة:
أوّلاً: الاجتهاد يؤسّس لتصارع أفكار الأحياء، لا لتصارع الأحياء في إطار أفكار الأموات التي ربّما تكون موضع نقاش حتّى من أتباع المذهب ـ فيما لو فتح باب الاجتهاد حولها ـ.
ثانياً: الاجتهاد المعاصر من شأنه أن يستفيد من التحدّيات المعاصرة التي اختبرناها نحن، وأكّدت لنا أنّ المستهدف هو الجميع، وليس مذهباً بعينه(10)، وهذا يُعتبر عاملاً مساعداً لتمكيننا من تجاوز كثير من التعقيدات التي زخر بها تاريخنا الذي كان مذهبيّ الوجهة والصراع في غالبه؛ لأنّنا عندئذٍ سنكون أمّة الحاضر لا أمّة التاريخ.
ثالثاً: إعادة التأكيد على الثوابت والقيم التي ينبغي أن تحكم تفكير المسلم وحركته، يُمكنها أن تعيد بناء النظرة الإسلاميّة للتاريخ الإسلامي، بكل ما فيه، بما يخفّف من الحدّة التي تُصنّف فيها المواقف والأحداث نتيجة ازدياد منسوب العصبيّات، وسنجد أنّنا قادرون على تقويم أفضل للتاريخ ولشخصيّاته بما يعود بالنفع علينا في واقعنا المعاصر، وعدم تحوّل التاريخ إلى مادّة تقاتل. لأنّ دور التاريخ بالنسبة إلينا هو ما أشار الله إليه بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)(11).
رابعاً: فتح باب الاجتهاد يُمكن أن يتيح الفرصة لنشوء فقه إسلامي غير مذهبي؛ لأنّ اتّفاق المسلمين على أكثر من ثمانين بالمئة من الفروع، يُمكن أن يؤسّس لتلاقح فكريّ في العشرين في المئة بما يُلغي الخصوصيّة المذهبيّة في تبنّي هذه الفكرة أو تلك.. وكم شهدنا في التاريخ، وفي الحاضر، أنّ ثمّة أموراً اقترب فيها الفكر أو الفقه السنّي من الشيعي والعكس صحيح.
3ـ الإيجابيّة الفكريّة
نروي عن عليّ (ع) في معركة صفّين أنّه قام في أصحابه خطيباً وقد سمع بعضاً منهم يسبّ أهل الشام، والحالة حال حرب، ومنطق الحرب قد يبرّر للإنسان تجاوز كثير من الخطوط التي تبدو حمراء في حال السلم.. فقال (ع): «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين؛ ولكن لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به»(12)؛ ويُروى عنه: «والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها»(13).. وكأنّه (ع) يقول: إنّ المؤمن لا يُمكن أن تكون روحه تدميريّة، أو إلغائيّة، أو إقصائيّة، أو روحاً انتقائيّة، تنتقي من الأخلاق في حالٍ ما تستبعد في حال أخرى.. بل لا بدّ من الروح الرساليّة، التي همّها الحقّ والعدل، وهمّها الهدى حتى لم يراهم الإنسان ضالّين، وهذا ما يُمكن أن يؤسّس لروح إيجابيّة يشعر فيها الإنسان بأنّه غير معنيّ بأسلوب تسجيل النقاط الذي أدمنّاه في خطابنا المذهبيّ عبر التاريخ الإسلاميّ كلّه، ويبتعد عن أسلوب السبّ والشتم الذي مثّل تنفيساً عن عقدٍ مذهبيّة أثارتها العصبيّات عبر تاريخ المسلمين، ولكن بالأسلوب العلمي الذي يعتبر أنّ فكر الإنسان إنّما هو ما يُنتجه من وجهة نظره التي قد تنظر إلى المسألة من زاوية وتختفي عنها زوايا أخرى قد تختلف معها الصورة كلّياً لو انفتح عليها الفكر؛ وهذا ما يدفعنا أيضاً إلى تواضع العلم، وعدم الاستكبار المعرفي الذي يَعتبِر معه كلُّ إنسانٍ أو كلُّ فريق، مهما علا شأنه، أنّ ما عنده هو الحقّ كلّه، وما عند الآخرين هو الباطل كلّه؛ فقد يلتبس علينا الأمر في معنى محدوديّة الإنسان، ولذلك تُصبح مقولة السيّد فضل الله بأنّ الحقيقة بنت الحوار هي السيرورة الطبيعية لحالة الإخلاص الفكري والنفسي للحقيقة لدى الإنسان؛ لأنّ الحقيقة إنّما تتأكّد لدى الإنسان عندما ينظر الإنسان إليها بعينه وعبر عيون الآخرين الذين قد يضيئون على زوايا أخرى منها، أو يثيرون تساؤلات قد لا تكون خطرت على بال؛ والله من وراء القصد.
الهوامش
(#) من أوراق المؤتمر السادس للتقريب بين المذاهب الإسلامية، في دمشق في 14/3/2010.
(2) آل عمران: 103.
(3) الحجرات: 110.
(4) النساء: 59.
(5) الكليني، الكافي، ج1، ص69.
(6) البقرة: 111.
(7) الزخرف: 23.
(8) المائدة: 8.
(9) صحيح أنّ النظريّة الشيعية تقول بفتح باب الاجتهاد، ولكنّ المسألة قد تتّصل أحياناً بالجمود الذي قد يحصل من الناحية التطبيقيّة عبر دخول الإنسان في نوعٍ من التقديس للرأي السائد، أو لمدرسة معيّنة، بما قد يغلق عمليّاً باب الاجتهاد وإن كانت النظريّة لا تغلقه.
(0#) الاحتلالات المتنوّعة خير شاهد على ما نقول؛ فإنّ بلاد المسلمين المحتلّة لا يفرّق فيها بين كون الغالبيّة من المسلمين السنّة أو الشيعة، والحملات التي تستهدف حركات التحرّر لا تفرّق بين حركة ترتكز على فقه سنّي أو على فقه شيعي.
(1#) يوسف: 111.
(2#) نهج البلاغة، ج1، ص 186، الكلمة رقم 206، وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصفّين.
(3#) المصدر نفسه: ج1، ص104، الكلمة رقم 55 وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفّين.

“حرب الظل” الإيرانية-الإسرائيلية تخاطر بالخروج عن السيطرة..

 الإثنين 15 نيسان 2024 - 9:21 م

“حرب الظل” الإيرانية-الإسرائيلية تخاطر بالخروج عن السيطرة.. https://www.crisisgroup.org/ar/middle… تتمة »

عدد الزيارات: 153,386,103

عدد الزوار: 6,890,081

المتواجدون الآن: 85