شبهة حفظ الدين مقدم على حفظ النفس...

تاريخ الإضافة الأحد 5 نيسان 2020 - 5:45 ص    عدد الزيارات 3880    التعليقات 0

        

شبهة حفظ الدين مقدم على حفظ النفس...

بقلم الشيخ علاء صالح....

الموضوع: هل تقديم حفظ الدين على حفظ النفس على إطلاقه؟....

بسم الله الرحمن الرحيم...

الانطلاق في مثل هذه النوازل أو المسائل من نصوص الشريعة المعبرة عن مقاصدها وأهدافها وأبعادها أمر مهم للغاية... وذلك لأن مقاصد الشريعة هي روح الدين وأعماله كما ذكر الإمام الشاطبي... وفي فهم تلك المقاصد والحكم حماية من الانحراف الفكري والسلوكي العملي، وتلبية لحاجة الفقهاء في العصر الحديث للوصول إلى أحكام المسائل المستجدة والمستحدثة والتي كثر ظهورها في هذا العصر بشكل متسارع...

ومن هنا حاول البعض مقاربة هذه المسألة "موضوع إغلاق المساجد مؤقتا لحين السيطرة على بدء انتشار الكورونا في العالم" من منطلق مقاصدي بقوله "حفظ الدين مقدم على حفظ النفس"، ولكنه للأسف جانب الصواب وشوّه - عن غير قصد - عظمة الدين وكماله وصلاحه وإصلاحه، وصغَّرنا أمام الناس، ولو أتعب نفسه في قراءة كلام الأصوليين المتقدمين والمتأخرين وعكف على دراسة ما كتب في هذا الموضوع لكفى أمته الشرور العظيمة...

فالسؤال المهم: هل المقصود تقديم مطلق حفظ الدين على حفظ ما بَعْدَهُ في الترتيب من نفسٍ ونسلٍ وعقلٍ ومالٍ؟

أجيب على استدلالهم الخاطئ بعدة نقاط:

من المتفق عليه أن الشريعة الغراء - بل وجميع الشرائع السابقة - جاءت بتنوع أحكامها لرعاية الكليات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال) والمحافظة عليها وصيانتها، كما تدعو العقول السليمة والفطر القويمة لذلك إلخ...

اختلف العلماء في الترتيب بين تلك الكليات الخمس لاعتبارات (فهي مسألة اجتهادية)، ولكل قول أدلته ووجاهته، فادعاء الإجماع على ترتيبها (الدين ثم النفس ثم...) - كما ورد في بعض الفتاوى - غير صحيح

وإن كان الأكثرون من العلماء على تقديم حفظ الدين على النفس في الأصل والجملة، إلا أنه من حيث التفاصيل ، نجد أن هناك فروعا كثيرة لا يمكن ضبطها تحت قاعدة واحدة مطردة، فليس للترتيب بين هذه الكليات من حيث التفصيل - في الفروع والجزئيات - قاعدة مطردة ولا قانون ثابت ولا قالب مصبوب يعوَّل عليه، بل تتفاوت لاعتبارات كثيرة ذكرها الأصوليون

وأذكر في هذا الصدد بقول الإمام الشاطبي في الموافقات بأن "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية"...

ولا بد من فهم ذلك وإدراك معانيها والتفريق بينها قبل الفتوى في هذه المسألة وغيرها، خاصة أننا رأينا في كثير من الفتاوى خلطًا وعدم تفريق بين ما هو من الضروريات وما هو من الحاجيات أو التحسينيات

إذًا، رعاية الكليات الخمس وصيانتها تكون بوسائل متدرجة حسب الأهمية على ثلاث مراتب وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وينضم إلى كل مرتبة منها ما هو مكمل لها، ويكون مندرجا معها في الرتبة، فالضروري مقدم على الحاجي، والأخير مقدم على التحسيني عند التعارض طبعا.

إذا تعارضت مصلحتان كليّتان (الدين والنفس مثلا) وكانتا في رتبة واحدة، كما لو كانت كلتاهما من الضروريات أو الحاجيات مثلا، فيقدم الضروري المتعلق بحفظ الدين على الضروري المتعلق بحفظ النفس عند جمهور الأصوليين...

أما إذا كانت المصلحة المتعلقة بالنفس ضرورية وما يعارضها من مصلحة متعلقة بالدين حاجية فقط، فتُقدَّم مصلحة النفس على المصلحة المتعلقة بالدين...

الضروري هو ما لا تستقيم حياة المكلفين إلا به، ويختل بفقدانه نظام الحياة، لذلك نؤمر بحفظه ضرورة من جهة الوجود ومن جهة العدم... أما الحاجيات (وهو ما يترتب عليه التوسعة على الناس، ورفع الضيق والحرج والمشقة عنهم، بحيث يترتب على فقدانه حرج ومشقة لاحقة بحياة الناس) والتحسينيات (وهو الأخذ بما يليق بمحاسن العادات، وتجنب السفاسف وما يطعن في المروءة، وما يأنفه أصحاب العقول الراجحة) ففواتهما لا يفوت أصل الدين، ولا أصل النفس، ولا أصل العقل، ولا أصل المال، ولا أصل العرض، ولكن سيوقع حرجاً ومشقة في فوات الحاجي ... وفي فوات التحسيني تجاوز لمراعاة الذوق والفطر السليمة، والعقل الصحيح، والأدب، والحشمة، والمروءة.

والبعض هنا يتكلم عن الضروريات ويجعلون إقامة الجمعة والجماعات منها وهي ليست كذلك...

فليس كل أحكام الشريعة من الضروريات إذًا، بل يندرج بعضها في الضروريات وبعضها الآخر في الحاجيات أو التحسينيات، وإقامة الجمعة والجماعة وستر العورة ليسوا من الضروريات على سبيل المثال لا الحصر التي يهلك الناس أو لا تستقيم حياة الناس بفواتها، بغض النظر عن حكمها التكليفي. أما حفظ الأنفس البشرية من الأمراض الخطيرة المنتشرة والهلاك المتوقع على المستوى البدني والمالي والعقلي هي من الضروريات التي لا تستقيم حياة الناس بفواتها...

ومن هنا، ليس المقصود تقديم جميع ما يتعلق بحفظ الدين على جميع ما يتعلق بحفظ النفس، بل يراد بتقديم الدين تقديمُ حفظ أصل الدين على غيره... وحفظ أصل النفس مُقدَّم على حفظ فروع الدين أو على مصلحة متعلقة بالدين حاجية أو تحسينية، وذلك ثابت معروف في الشريعة، ونعطي على ذلك عدة أمثلة:

رخصة الفطر للمسافر وترك الصوم حال السفر وقضاؤه عند الاستطاعة خاصة في حالة المشقة البالغة على الشخص

الرخصة للمريض في ترك الصوم خاصة في حالة المشقة البالغة على الشخص والتي قد تكون مفضية إلى الموت

ترك الصلاة قائما أو قاعدا أو ... وينتقل للكيفية التي يقدر عليها

النطق بالكفر في حال الإكراه المبيح للتلفظ بذلك بشرط بقاء اطمئنان القلب بالإيمان

تقديم إنقاذ الغريق على الصلاة في وقتها، فيقضي الصلاة بعد الفراغ من إنقاذ الغريق، ولو فات وقت الصلاة، ففي ذلك تقديم لمصلحة النفس في إنجائها على مصلحة الصلاة التي قد تقضى في وقت لاحق، فلا ذهاب ولا مساس لأصل الدين هنا ولا تضييع له

جواز ترك الجمعة للقيام على المريض أو حفظ المال بضوابط معروفة...

ففي ذلك كله حفظ للنفس (من الجانب الضروري) عن حفظ فروع في الدين (من الجانب الحاجي أو التحسيني)...

والتخفيف هنا في هذه الأمثلة (كالأمور المتعلقة بالمسافر والمريض وغيرهما) ليس تقديما لمقصود حفظ النفس على مقصود حفظ أصل الدين، بل على فروعه، كما قرر الآمدي وغيره من الأصوليين رحمهم الله تعالى...

لا يعني هذا الكلام التقليل من شأن ومكانة شعائر الدين وفرائضه إنما هو تقديم للضروريات على الحاجيات والتحسينيات وإعمال لمبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد، ودرء أعظم المفسدتين، وارتكاب أخف الضررين، وتحصيل أعظم المصلحتين...

وفي هذه النازلة التي نعيشها، فإن ترك الأخذ بكافة الاحتياطات اللازمة ومنه منع التجمعات في الأماكن العامة ومنها المساجد يؤدي إلى كوارث حقيقية على المستوى البشري بكل أشكاله، ومنه ضياع أصل النفس لوجود المفسدة المتيقنة أو المتوقعة الراجحة عند الإهمال والاستهتار والتورع في غير مكانه، أما ترك الصلوات في المساجد وأماكن التجمعات لفترة مؤقتة فلا يؤدي إلى ضياع الدين من أصله، بل لها بدائل في الشريعة من الصلاة جماعة في البيوت، ولذلك دخلت ضمن قاعدة دفع أكبر الضررين، وتحقيق أعظم المصلحتين.

ومن هنا وجب على كل الجهات المعنية المختصة التوجه لاتخاذ كل الإجراءات الصارمة بقصد الحد من انتشار هذا الوباء، - ولو كان في بداياته - فجاءت الفتاوى من كثير من كبار علماء الأمة المبنية على المصالح والمقاصد الشرعية وتوجيهات وإرشادات وتعليمات الجهات الطبية المختصة الموثوقة، التي أفتت بمنع سائر التجمعات المفضية لانتشار الفيروس المذكور، ومنها صلوات الجماعات والجمعات لحين السيطرة على انتشاره، خاصة عند ثبوت بدء ظهور الوباء، وسرعة انتشاره، لدرجة تفوق إمكانيات وقدرات بعض الأجهزة الطبية العالمية وميزانيات كثير من الدول مما ينتج عن ذلك العديد من الوفيات والاختلالات في أنظمة الأمن والأنظمة الاجتماعية... إذا كان هذا الحال في الدول المتقدمة، فكيف الحال بدول العالم الثالث كما يقولون؟؟؟

ملاحظة: ضرورة التأكيد على منع كافة تجمعات الناس وإغلاق كل مؤسسة عامة وخاصة -لا المساجد فحسب- والتي لا يندرج فتحها تحت خانة الضروريات (كالمستشفيات والصيدليات وغيرهما) ولا يوجد بديل عنها، مع التنبيه أن الخلاص في كل أمر من أمور الدنيا يكون بالتوكل على الله الذي لا يكمل إلا بالأخذ ومباشرة الأسباب المتاحة والمشروعة والموضوعة من قبل الله تعالى... والله الموفق...

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,162,851

عدد الزوار: 6,758,172

المتواجدون الآن: 130