الهروب العربي الكبير (١)(2)

تاريخ الإضافة الثلاثاء 16 كانون الأول 2008 - 8:26 ص    عدد الزيارات 928    التعليقات 0

        

الهروب العربي الكبير (1) 

فهمي هويدي

بعد ست سنوات على إطلاقها تحولت مبادرة السلام العربية إلى ورقة توت تخفي عورة العجز والإفلاس العربيين، وذريعة للالتفاف على التطبيع مع إسرائيل.
كمن العرب طويلاً وسكتوا، ثم أطلقوا قبل أسبوعين غارة إعلانية احتلت مساحات كبيرة في العديد من الصحف العربية (جريدة »الخليج« الإماراتية رفضت نشرها)، كما استهدفت ثلاثاً من أهم الصحف العبرية ( يديعوت أحرنوت ومعاريف وهاآرتس). وكان الهدف الأساسي لتلك الغارة هو الترويج للمبادرة السعودية، التي تبنتها قمة بيروت العربية عام ،٢٠٠٢ وآثار الانتباه في هذه الغارة المحيرة، أولا أنها مارست لأول مرة نوعا مع التطبيع الإعلاني مع العدو الإسرائيلي، وثانيا أن الإعلان تضمن شعاري جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وثالثاً أنه نشر في الصحف العربية لمخاطبة القراء الذين يعرفونها جيداً، كما نشر بالعبرية في الصحف الإسرائيلية لمخاطبة أناس يرفضونها، وقد حرصت الجهة التي نظمت العملية على إحاطة الإعلان المنشور بأعلام ٥٧ دولة عربية وإسلامية في إشارة موحية لا تخفي دلالتها.
أغلب الظنّ أن الجامعة العربية هي التي تبنت هذه العملية مع السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يثير السؤال: لماذا الآن؟ - في الرد تلوح في الأفق أربعة احتمالات، أحدها أن يكون الهدف هو تغطية الفشل الذي منيت به مفاوضات السلطة الفلسطينية مع الإسرائيليين، كما قد يكون الهدف امتصاص أصداء مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في نيويورك مؤخراً، وشهد لأول مرة جلوس العاهل السعودي الملك عبد الله، الذي أطلق المبادرة حيث كان ولياً للعهد، مع الرئيس الإسرائيلي »شمعون بيريز« على مائدة واحدة، وربما كان الهدف هو محاولة التأثير على الناخب الإسرائيلي، لكي يصوت للحزب المؤيد للمبادرة في الانتخابات المقرر إجراؤها هناك في فبراير القادم. ربما أيضاً كان الهدف هو تقديم أوراق اعتماد العالم العربي إلى الإدارة الأميركية الجديدة، قبل استلامها السلطة في أواخر يناير القادم.
سواء أكان بعض هذه الأسباب أو كلها وراء شن الغارة الإعلانية، فالشاهد أن المبادرة استدعيت من مكمنها ووضعت على الطاولة أمام الجميع معلنة على الملأ أن العرب سجلوا فيها عرضاً لحل الصراع الممتد مع إسرائيل.
لم تأت المبادرة من فراغ، ولكنها حين أطلقت من قبل ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز كان لها هدف وسياق. وحين تبناها مؤتمر القمة العربية في عام ٢٠٠٢ أصبح لها سياق آخر وهدف آخر، انضاف إلى الأول، وإذا أردنا أن نكون أكثر وضوحاً فربما جاز لنا أن نقول بأن المبادرة بدأت محاولة للخروج من مأزق واجهته المملكة العربية السعودية، وأصبحت في النهاية محاولة للخروج من مأزق يواجه النظام العربي، وهذا منطوق يحتاج إلى بعض الشرح.
إذ ليس خافياً على أحد أن المملكة العربية السعودية واجهت حرجاً بالغ الشدة، بسبب أحداث سبتمبر ،٢٠٠١ الذي تحدثت الأنباء في ضلوع ١٩ من ٢١ من الشباب السعوديين في ارتكاب الجريمة التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. ولأن وقع الصدمة كان صاعقاً في الولايات المتحدة كما هو معلوم، فإنها أدت إلى تدهور سمعة المملكة بشكل فادح هناك. كما أنها كانت سبباً في توجيه هجمة إعلامية شرسة ضدها في الإعلام الأميركي بشكل خاص والإعلام الغربي بوجه عام، وكانت الموجة العدائية أعلى بكثير من أن تستوعب بواسطة شركات العلاقات العامة المتخصصة التي يستعان بها في مثل هذه الحالات.
ثمة كلام كثير عن الاتصالات التي أجرتها المملكة لتجاوز الأزمة وإعادة ترميم صورتها التي شوّهت بالكامل، لكن الشق الذي يعنينا في هذه الاتصالات هو ما يتعلق بالدور الذي لعبه الصحفي الأميركي البارز »توماس فريدمان« في استدعاء فكرة المبادرة، التي انطلقت من الانطباع الرائج في أوساط النخبة العربية، ويتلخص في أنك إذا أردت أن تستميل الإدارة الأميركية وتكسب الإعلام هناك، فما عليك إلا أن تطرق باب إسرائيل أولاً التي تملك وسائل ترقيق قلوب السياسيين الأميركيين، وضبط إيقاع الخطاب الإعلامي في واشنطن.
لا نستطيع أن نحدد بالضبط حجم الدور الذي لعبه »فريدمان« ـ محرر صحيفة نيويورك تايمز ـ لكن القدر الثابت أن الرجل الذي يرتبط بصلة وثيقة مع إسرائيل بحكم يهوديته، كان موجوداً في قلب المبادرة التي أريد بها تحسين صورة المملكة بما يقدمها على أنها داعية سلام من خلال تبنيها أطروحة لحل معضلة الصراع العربي الإسرائيلي (لاحظ أن مؤتمر حوار الأديان الأخير الذي عقد في نيويورك بحضور الملك عبد الله وشمعون بيريز يمثل خطوة أخرى على الطريق ذاته).
المناخ العربي كان مهيأ لاستقبال المبادرة والاحتفاء بها، لسبب جوهري هو أن النظام العربي كان حينذاك قد دخل مرحلة »التهافت على السلام«. إذا استخدمنا التعبير الذي أطلقه الأستاذ هيكل في وصفها. كانت اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس أنور السادات مع مناحيم بيغن في عام ١٩٧٩م هي الحلقة الأبرز في بدايات تلك المرحلة، ذلك أنها أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، مقابل انسحاب قوات الاحتلال من شبه جزيرة سيناء، مع تجريدها من السلاح وحظر دخول القوات المسلحة المصرية إليها، وحين أعلن الرئيس السادات أن حرب أكتوبر لعام ١٩٧٣م هي »آخر الحروب« مع إسرائيل، فإنه بذلك اعتبر المفاوضات خياراً وحيداً في التعامل مع إسرائيل، وهو ما سوغ لقادة الدولة العبرية أن يرددوا في تصريحاتهم أن مصر خرجت من الصراع ولن تعود إلى المواجهة مع إسرائيل، وكان »آفي دختر« وزير الأمن الداخلي أحدث مسؤول في الدولة العبرية أعاد التأكيد على هذه النقطة في محاضرة مهمة له ألقاها بمعهد أبحاث الأمن القومي في شهر سبتمبر الماضي.
لا يفوتنا هنا أن نذكر أن الرئيس السادات حين وقع اتفاقية كامب ديفيد وتعرّض بسببها لانتقادات عربية واسعة النطاق، فإن السعودية واجهت ضغوطا أميركية للانخراط في مسيرة »السلام المفترض«، الأمر الذي دفعها إلى تقديم مبادرة الملك فهد في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في فاس بالمغرب عام ١٩٨١م وتضمن آنذاك بعض الأفكار التي وردت لاحقاً، في مبادرة الأمير عبد الله، لكن اعتراض سوريا و دول اخرى عليها أدى إلى إيقافها وعدم إقرارها من قبل القادة العرب.
اتفاقيات كامب ديفيد فتحت الطريق رسمياً وعلناً لمسيرة التطبيع مع إسرائيل قفزا فوق استحقاقات القضية الفلسطينية، وأقول رسمياً وعلناً لآن الاتصالات السرية وغير الرسمية كانت قائمة بين إسرائيل وبعض الدول في المغرب والمشرق العربيين.
في تلك الأثناء كانت منظمة التحرير الفلسطينية مازالت تتمتع ببعض العافية، وكانت أجواء مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ما زالت مواتية. (لا تنسَ أن الاتحاد السوفيتي كان مسانداً للحق الفلسطيني) رغم أن الرئيس ياسر عرفات والدائرة الضيقة المحيطة به كانوا قد أصبحوا يميلون إلى فكرة الحل السياسي، وهو ما تحدث به السيد »هاني الحسن« عضو المجلس الوطني أمام الجمعية الراديكالية في لندن عام ١٩٨٩م، مشيراً إلى أن التفكير في »الحل السياسي« أصبح يراود أبو عمار في أعقاب هزيمة يونيو لعام ١٩٦٧م. غير أن استمرار المقاومة وظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الساحة مع بداية الثمانينيات أعطى دفعة لتيار المقاومة، بلغت إحدى ذراها في انتفاضة عام ١٩٨٧م، التي فاجأت الجميع، وأثبتت حضوراً متزايداً لدور المقاومة الإسلامية بجناحيها، وهو ما أثار انتباه الإسرائيليين بوجه أخص، الذين وجدوا أنفسهم أمام قوة فلسطينية جديدة صاعدة، وبالتالي كان عليها أن تختار ما بين فتح وحماس. ففضلت أن تمد جسورها مع فتح، وهذا التواصل هو الذي أفرز اتفاقات أوسلو التي عقدت عام ،١٩٩٣ وبعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في سنة ١٩٩٢ وترتب على اتفاقات أوسلو عودة أبو عمار إلى غزة، وانتخابه رئيساً للسلطة الفلسطينية، ومن ثم انخراطه في مسيرة التفاوض والحل السلمي مع إسرائيل. وهو ما سجله عرفات في رسالة بعث بها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي في ٩/٩/١٩٩٣ وقال فيها إن منظمة التحرير الفلسطينية »تلزم نفسها بعملية السلام في الشرق الأوسط، وبحل سليم للنزاع بين الجانبين، وتعلن أن كل القضايا العالقة المتعلقة بالوضع النهائي ستحل عن طريق المفاوضات«.
بعد أوسلو وقع الأردن اتفاقية »وادي عربة« مع الإسرائيليين في سنة .١٩٩٤ وحين وجدت إسرائيل أن أبو عمار لم يمتثل لشروطها في المفاوضات حاصرته في المقاطعة وقتلته بالسم في عام ،٢٠٠٤ وفي هذه الأثناء واصلت إسرائيل اختراق العالم العربي، فتم تطبيع العلاقات بينها وبين موريتانيا، وتوالى فتح مكاتب تمثيلية لها ـ قيل إنها تجارية ـ في المغرب وتونس وقطر وسلطنة عمان، الأمر الذي جاء دالاً على أن التهافت على السلام يتقدم بخطى حثيثة، وأن إسرائيل توسع اختراقاتها للعالم العربي حيناً بعد حين.
منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في عام ،١٩٧٩ وخروج مصر عملياً من الصراع سرى الوهن في الجسم العربي كله، إذ تم الاعتراف بدولة إسرائيل التي لم تعترف بأي شيء للفلسطينيين، واعتبر السلام خياراً استراتيجياً في حين لم تعلن ذلك إسرائيل، واتفق على حل كل شيء بالتفاوض الذي رحّبت به إسرائيل المستعدة للتفاوض إلى الأبد (ابا إيبان أبو الدبلوماسية الإسرائيلية عرف الدبلوماسية بأنها أن تقول كلاماً معقولاً يقبله الجميع، دون أن يترتب عليه أي عمل، وشامير رئيس الوزراء الأسبق قال في مؤتمر مدريد إنهم مستعدون للتفاوض لعشر أو عشرين سنة).
في طور الوهن أيضاً أصبحت المقاومة عنفاً منبوذاً والجهاد إرهاباً منكوراً، والصراع صار نزاعاً والاحتلال انتشاراً، وتراجعت الشرعية التاريخية في فلسطين لمصلحة ما سمى بالشرعية الدولية، ثم تراجعت الشرعية الدولية، بحيث لم تعد تتمثل في قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية، ولكنها صارت ما تمليه واشنطن وتوافق عليه الرباعية، في الوقت ذاته لم تعد فلسطين قضية العرب المركزية، ورفع بدلاً منها في أغلب العواصم شعار »نحن أولاً، وليذهب العرب إلى الجحيم !«.
هذا التقهقر المستمر على مختلف الجبهات كان بمثابة هدايا مجانية قدمها العرب إلى إسرائيل التي ظلت متمنعة طوال الوقت. المدهش أنه إزاء تمنعها المدعوم من الولايات المتحدة ظلت الدول العربية تقدم في كل تراجع تنازلاً جديداً.
من رحم هذا الوهن المخيم خرجت المبادرة العربية بعرض يلوح بإغلاق الملف بالكامل والتسليم لإسرائيل بأهم ما تريده، فيما بدا أنه هروب من المشكلة إلى الأمام من خـلال طرح حل نهائي لها. وبإعلانها اعتبرت الدول العربية أنها أبرأت ذمـتها، وقدمت للقضية آخر ما عندها، بحيث لم يعد ما يشغلها هـو تحرير فلسطين، وإنما انحصر نضالها في محاولة تسويق المبادرة في مختلف المحافل، واستجلاب الرضى الإسرائيلي ومحاولة »شرحها« للإسرائيليين (!) تارة من خلال مبعوثين للجامعة العربية (سفر وزير خارجية مصر والأردن إلى تل ابيب)، وتارة أخرى لتبرير الاتصالات الثنائية (اجتماع وزير خارجية البحرين السابق مع تسـيبي ليفني). ثم من خلال حملة الإعلانات الأخيرة في الصــحف العربية والعبرية.
لقد مثلت المبادرة منعطفاً خطيراً له تأثيره السلبي على مسيرة القضية الفلسطينية، كيف ولماذا ؟
 

الهروب العربي الكبير (٢) 

رغم أن إسرائيل لم تقبل المبادرة العربية رسميا، إلا أن الأمر المؤكد أنها ما زالت أكثر الأطراف سعادة بها، لأنها تحولت إلى قسيمة زواج »عرفي« فتحت البيت وسوغت الدخول.
من باب التذكرة فقط، أنبه إلى أن المبادرة التي أطلقت في عام ٢٠٠٢ أصبحت مقدمة الآن باسم الدول العربية والعالم الإسلامي، أي إنها تلوح لإسرائيل بأنها ستفتح لها أبواب التطبيع على مصراعيها في ٥٧ دولة. وتلك جائزة كبرى لا ريب. أنبه أيضاً إلى أن المبادرة أعلنت بعد تولي ارييل شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية في عام .٢٠٠١ وهي تدعو اسرائيل إلى إعلان أن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي (وهو ما فعلته مصر منذ ٣٠ سنة). وتطالبها بالانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها عام ،١٩٦٧ التي تشمل الضفة وغزة والجولان وجنوب لبنان. كما تطالبها بحل عادل لمشكلة اللاجئين يتفق عليها، وبقبول قيام دولة مستقلة ذات سيادة على الاراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو ١٩٦٧ في الضفة والقطاع وتكون عاصمتها القدس الشرقية. وإذا ما استجابت اسرائيل لهذه الطلبات فإن الدول العربية في هذه الحالة ستقوم بأمرين، أولهما اعتبار »النزاع« العربي الإسرائيلي منتهياً، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين اسرائيل. وثانيهما إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل.
عند القراءة الثانية لنص المبادرة يلاحظ المرء أنها قدمت إلى إسرائيل مجموعة من الهدايا المجانية التي تتمثل في ما يأتي:
ـ الاعتراف المفتوح الذي قررته الدول العربية. وقد اعتبر ذلك الاعتراف مضموناً وجاهزاً، لكنه مؤجل، وينتظر القبول من جانب اسرائيل التي ستحدد هي موعد سريانه.
ـ وصف ما بين العرب واسرائيل بأنه »نزاع« وليس صراعاً كما هو التعبير الأدق والأصوب. والفرق بين المصطلحين أن النزاع مصطلح يصف اختلافاً بين حقين، فيما الصراع وصف للتدافع الحاصل بين الحق والباطل، أي بين الضحية المجني عليها والغاصب المعتدي. وليس مفهوماً لماذا انحازت المبادرة مرتين في تعبيرها إلى الوصف الأول الذي يزور حقيقة الصراع.
ـ النص على انتهاء الصراع بين العرب والإسرائيليين في حالة موافقة الأخيرين على المبادرة. الأمر الذي يعرض تطوعا بالتنازل المجاني عن فلسطين التاريخية التي اغتصبت اسرائيل ٨٨ في المئة من مساحتها، والإقرار بإسقاط كل جرائم الإبادة والنهب والترويع التي تعرض لها الشعب الفلسطيني طوال قرن من الزمان. وخطورة هذه النقطة تتضح أكثر إذا قارنا هذا العرض المفرط في التسامح غير المبرر بموقف اسرائيل من ألمانيا، ذلك أنها ما زالت تعتصر الدولة الألمانية وتبتزها ماليا حتى هذه اللحظة فيما ما برحت تجلد الضمير والذاكرة الألمانيين بسبب ما تعرض لها اليهود تحت حكم النازيين في أربعينيات القرن الماضي. وقد نشر موقع مجلة »دير شبيغل« الألمانية في ٢٣/١١/٢٠٠٧ ان حكومة بون دفعت تعويضات لإسرائيل عن معاناة اليهود بلغت ٨٨ بليون دولار حتى عام ٢٠٠٧ وفي شهر اكتوبر من هذا العام قررت وزارة المالية الالمانية تخصيص ٢٥٠ مليون دولار أخرى خلال السنوات العشر القادمة لتغطية نفقات ٦ آلاف يهودي لا يزالون أحياء بعد نجاتهم من »المحرقة«. أما الجريمة المستمرة بحق الفلسطينيين، التي تعادل أضعاف ما حل باليهود في ألمانيا، فإن المبادرة تعرض نسيان فصولها تماما بالمجان، مبدية استعداداً مذهلاً وغير قابل للتصديق لاعتبار كل الفظائع التي جرت لم تكن!
ـ إسقاط حق اللاجئين في العودة من خلال النص على »حل عادل يتفق عليه« وهو نص ملغوم ظاهره الرحمة وباطنه مسكون بالعذاب والشقاء. كما يذكر الدكتور سلمان أبو ستة المنسق العام لمؤتمر حق العودة في دراسته العديدة حول الموضوع، ذلك أن الكلام عن حل عادل يعني أن الموضوع قابل للمساومة، فيما عودة اللاجئين حق غير قابل للتصرف كفله القانون الدولي أكثر من مئة مرة، من ثمة فالمطلوب هو تنفيذ الحق لا المساومة عليه، علماً بأن الإشارة إلى أنه »يتفق عليه« لا تعني إلا شيئاً واحداً هو أنه تم ذلك مع الإسرائيليين الذين رفضوا منذ عام ١٩٤٨ عودة اللاجئين إلى ديارهم.
إن إسقاط حق العودة يعني قبول المبادرة بأن يبقى ٧٠ في المئة من أبناء الشعب الفلسطيني البالغ عددهم ١١مليوناً في المخيمات والمنافي، لأن ٣٠ في المئة فقط من الفلسطينيين هم الذين يعيشون على أرض فلسطين الآن، ولا يخلو الأمر من مفارقة، لأن المبادرة التي أسقطت حق العودة، نصت على رفض توطين اللاجئين في البلاد العربية، الأمر الذي يثير التساؤل الآتي: إذا كان على ٧٠ في المئة من الفلسطينيين أن يحرموا من العودة إلى بلادهم، وإذا كان توطينهم في البلاد العربية مرفوضاً، فهل يعني ذلك أن يحكم عليهم بالتشرد الأبدي في مختلف أصقاع العالم البعيدة؟
لم تقبل اسرائيل الهدية التي طمأنتها إلى أن النظام العربي أشهر إفلاسه بحيث لم يعد قادراً على أن يسترد الحق الذي سلب منه بالقوة. بالتالي فإنها أصبحت تستجدي السلام وتتهافت عليه، بعدما غدت عاجزة عن أن تفرضه على نحو يحفظ كرامتها وحقوقها، وفي هذه الحالة فإن المبادرة تحولت إلى مسكّن ومهدئ لخواطر الإسرائيليين، وإلى مخدر للعرب. وكانت النتيجة أن الذين هدأت خواطرهم اطمأنوا إلى تأمين ظهورهم فاندفعوا في تنفيذ مخططاتهم. أما الذين تعاطوا المخدر فقد التحفوا بالمبادرة وغطوا في نوم عميق ومن ثم فإنهم أصبحوا جزءا من المشكلة لا طرفا في حلها!
إننا إذا رصدنا الممارسات الإسرائيلية منذ أطلقت المبادرة العربية في عام ٢٠٠٢ وحتى نهاية العام الحالي (٢٠٠٨)، فسوف نكتشف أن الرسالة المعطرة التي بعث بها إليهم القادة العرب في قمة بيروت، استقبلت في تل أبيب بدرجات مختلفة من الازدراء والتجاهل.
يسلط التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة ،٢٠٠٧ الذي أعده مركز الزيتونة في بيروت، أضواء قوية على »إنجازات اسرائيل« في ظل المبادرة العربية، التي منها ما يأتي:
ـ في العام ذاته الذي أطلقت فيه المبادرة (٢٠٠٢) شرعت حكومة اسرائيل برئاسة أرييل شارون في بناء الجدار العازل. وخلال الفترة الواقعة بين سنتي ٢٠٠٢ و٢٠٠٧ تم بناء ٤٥٠ كيلومتراً من ذلك الجدار. وهو ما أدى إلى عزل ٢٧٤٦٠٧ كيلومترات مربعة من أراضي الفلسطينيين، وتهجير ٢٧٨٤١ فرداً. وقد تسبب الجدار في إغلاق ٣٥٥١ منشأة اقتصادية للفلسطينيين. كما كان سبباً في مصادرة ٤٩٢٩١ دونماً لمصلحة عملية البناء.
ـ طبقاً لمعلومات مركز معهد الأبحاث التطبيقية ـ القدس(اريج) فإن اسرائيل أقامت في الفترة من ٢٠٠١ الى ٢٠٠٧ ١٢٢٦٧٧ وحدة سكنية في المستوطنات، وأن عام ٢٠٠٧ شهد حركة استيطانية مكثفة، إذ أقيمت خلاله ٣٢٠٦٤ وحدة سكنية حتى شهر سبتمبر ذلك العام.
ـ هدم الاحتلال ٧٢٥ منزلاً للفلسطينيين في القدس، كان يعيش فيها ٣٥٥٤ فلسطينياً، بينهم ٢١٣١ طفلاً.
خلال تلك الفترة ايضاً أعادت اسرائيل احتلال الضفة بالكامل، وأخلت مسؤوليتها كدولة محتلة عن قطاع غزة، ونشّطت عملية تهويد القدس، وحاصرت الرئيس ياسر عرفات وقتلته بالسم. في الوقت ذاته فإنها رفعت شعار الدولة اليهودية، في التمهيد لطرد عرب ٤٨ واقتلاعهم من أرضهم وديارهم. وشغلت الفلسطينيين بسلسلة من الآلاعيب السياسية التي أوهمتهم بأنهم سيقيمون دولتهم في نهاية عام .٢٠٠٨ وظلت تلوح لهم بتلك »الجزرة« عبر المفاوضات العبثية، فيما كانت تحدث انقلاباً في خرائط الواقع بما يجعل تحقيق ذلك الحلم مستحيلاً. وأخيراً نجحت إسرائيل في اختراق الصف العربي والانخراط في نسيجه السياسي، على نحو صرف الانتباه عن الجريمة التي تجسدها وعن الخطر الذي تمثله على الأمن القومي العربي، بحيث أشاعت بين بعض الدوائر العربية أنها (وهي ما زالت تفترس فلسطين وشعبها) لا تشكل خطراً على العالم العربي، وأن ايران هي مصدر ذلك الخطر. ومن مفارقات الأقدار وسخريتها، أن اسرائيل ومعها الولايات المتحدة بطبيعة الحال، قسّمت العرب إلى معسكرين، أحدهما للمعتدلين الذين يصطفون معها ويحذرون من الخطر الإيراني، والثاني للمتطرفين الذين يعارضون سياستها ولا يزالون يعتبرونها الخطر الأول. وبهذا الاختراق فإن إسرائيل ذهبت إلى أبعد، وتحولت إلى لاعب مؤثر في السياسة العربية.
في نهاية نوفمبر الماضي وجه حوالى ٥٠٠ من كبار جنرالات الجيش الإسرائيلي المتقاعدين والمسؤولين الأمنيين والدبلوماسيين نداء إلى الحكومة الإسرائيلية لكي تنتهز »الفرصة التاريخية« التي وفرتها مبادرة السلام العربية بإعلان الموافقة عليها والتوصل إلى صفقة نهائية مع العرب والمسلمين تنهي المشكلة، وخصوصاً مع الفلسطينيين والسوريين. وهذا المديح للمبادرة سمعناه أخيراً على لسان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز الذي رحب بها ودعا إلى إدخال »بعض التعديلات« عليها. وهو أمر مفهوم، يظهر في العلن مدى السعادة التي استشعرها الإسرائيليون حين وجدوا أن الزعماء العرب دب في نفوسهم اليأس واستسلموا للوهن، وقرروا بعد ستين عاماً من الصراع أن يسلموا لإسرائيل أهم ما تريد، الأمر الذي وفر لها درجة من الأمان الاستراتيجي لم تعرفها منذ تأسيس الدولة العبرية في عام .٤٨
من حق أي أحد أن يطرح السؤال الآتي: إذا كانت المبادرة قد وهبت لإسرائيل كل تلك الجوائز التي سبقت الاشارة اليها، فلماذا لم تنتهز الفرصة وتعلن قبولها؟ ردي على ذلك ان اسرائيل بعدما ضمنت المبادرة، وأدركت أنها آخر ما عند العرب، في ظل انهيار النظام العربي وانبطاح دوله، فإنها آثرت الانتظار، لأن الوقت في مصلحتها على طول الخط. فهي تتمدد على الارض يوماً بعد يوم، ومستمرة في تهويد القدس والتخلص من العرب المقيمين بين ظهرانيها بمختلف السبل (في الاسبوع الماضي نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة »معاريف« إعلاناً ملوناً وجذاباً عن أن الإدارة الأميركية تدعو خمسين ألفاً من المقيمين داخل اسرائيل للهجرة إلى الولايات المتحدة والحصول على تصريح العمل والإقامة الدائمة (البطاقة الخضراء). ولأن الإعلان الذي تضمن الشروط والتفاصيل مكتوب باللغة العربية، فلم يكن هناك شك في انه يستهدف عرب ٤٨ دون غيرهم). وفوق هذا كله وذلك، فإن إسرائيل مستمرة في تدمير حياة الفلسطينيين، خصوصاً عناصر المقاومة بينهم، سواء من خلال التنسيق الأمني مع السلطة القائمة في رام الله، أو بواسطة الحصار الوحشي المفروض في غزة.
ثمة خطاب سياسي عربي يعتبر أن الانقسام الفلسطيني ضيع القضية الفلسطينية وأسقط هيبتها. وهذا كلام إذا كان فيه بعض الصحة إلا أنه غير دقيق لأن الضرر الذي أحدثه الانقسام يأتي في المرتبة التالية بعد الجناية التي أحدثها انهيار القطاع العربي واستسلام دوله لهيمنة الإدارة الأميركية، التي تسلمت من العرب ملف القضية في مؤتمر »أنابولس«، بعدما وقعوا صك الاستقالة منها في مبادرة السلام، ومن ثم انتقلوا من موقع الراعي المساند إلى مقاعد المتفرجين الذين أصر بعضهم على الجلوس مغمض العينين. يشهد بذلك الحاصل في قطاع غزة.
 

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,176,827

عدد الزوار: 6,759,073

المتواجدون الآن: 135