إفلاس «الحاج عز الدين» ومأساة ثقافة الاقتصاد الوهمي

تاريخ الإضافة السبت 5 أيلول 2009 - 8:18 ص    عدد الزيارات 1445    التعليقات 0

        

قاسم عز الدين

مرّة أخرى يضرب إفلاس أحد رجال الأعمال مئات العائلات في لقمة عيشهم، دون أن يخمش ثقافة الاقتصاد الوهمي والربح السريع حتى بشوكة. وقد تعايشنا قبل اليوم مع عشرات الوقائع المماثلة في لبنان والعالم العربي، على اعتبار أنها أحداث عرضية خارجة عن النظام السائد الذي تزينه ثقافة الاستهلاك بكل أنواع الطيب الاصطناعي. وشهدنا كذلك إفلاسات أوسع وأفدح في عواصم البلدان الصناعية وفي كل مرة يجتهد المعنيون الكبار ثم الصغار في شخصنة تقنية الاحتيال حفاظا على«قدسية» النظام السائد. وحين وقعت الواقعة الكبرى في إفلاس النظام المالي العالمي، طغت أقاويل الجشع وسوء التصرف على تحليل الظاهرة خوفا من ان يمس النظام السائد شك بالاحتيال ولم تأخذ قمم العشرين من بحاثة الاقتصاد الذين يطعنون في النظام السائد، غير القشرة في نقد تشريع الاحتيال. وتدل عظمة الجهود المبذولة للدفاع عن النظام السائد، على هول مصالح المستفيدين من فساد النظام السائد واستعدادهم للتضحية بأكباش محرقة حين تقع الواقعة بتأثير خلل تقني يفضح الفساد الرسمي.
وفي الحالة الراهنة، يجمع كل الذين يعرفون الحاج صلاح عز الدين معرفة وثيقة، على براءة الرجل من تهمة التقصير الاحتيالي بانتظار ان يكشف التحقيق القضائي ملابسات الواقعة. ولا يغيّر هذا الأمر مأساة العائلات في الضاحية والقرى الجنوبية الواقعة ضحية التقصير المصرفي في الاقتصاد الوهمي. بل على العكس من ذلك، يدل على تقصير كبير من تنظيم اقتصاد بيئة المقاومة بحدود ما ينبغي على المقاومة توجيهه والمساهمة بتنظيمه، لأنه يمسها بشكل او آخر. والأدهى يكشف في الوقت نفسه أن بيئة المقاومة مشبعة مثل غيرها بثقافة الاقتصاد الوهمي ومخيال الربح السريع، بينما ينبغي تحصين هذه البيئة قبل غيرها من كل أنواع الفساد وفي مقدمتها الاقتصاد الوهمي والربح السريع.
[[[
والحال، وظّف عدد من رجال الأعمال أموالا طائلة في تجارة الحاج صلاح مقابل أرباح تتجاوز عشرين بالمئة. وقد أغرى صيت الحاج بالورع والتقوى، الكثير من صغار التجار والعائلات الفقيرة، أحلامهم بدخل إضافي يستر عورة آخر الشهر. ومنهم من رهن بيته او استدان من أقاربه وضرب أخماس الربح المبارك بأسداس الضائقة المالية. فبلغت الخسارة مئات ملايين الدولارات (على أحسن تقدير) لا شك أنها تصيب دورة مالية أوسع من الخسارة المنظورة. ولا نعرف اليوم، بانتظار نتائج التحقيق القضائي، ما إذا كان إفلاس تجارة الحاج ارتدادا من ارتدادات افلاس النظام المالي العالمي او اذا ما تعرض لاحتيال او هزيمة في حرب الأسواق الموازية. لكن الأمر في دلالته العميقة سيّان، فقوانين الاقتصاد الحقيقي تستعيد دوما مجراها في كشف كوارث الاقتصاد الوهمي، تشهد على ذلك حالة اللااستقرار الاقتصادي في عالم اليوم.
والحقيقة أن كل اقتصادات العالم العربي معرضة للإفلاس بل هي تعيش حاليا أشكالا متعددة من الافلاس الاقتصادي، تجري تغطيتها بمنشطات دائمة من خارج القوانين الاقتصادية. وهي غالبا حقن مالية على شكل ديون او مساعدات او استثمارات في الريع القابل للانفجار الخارجي والداخلي. يدل على هذا الافلاس الاقتصادي انهيار القطاعات الانتاجية والبطالة والفقر المعمم والتبعية المستفحلة للسوق الدولية، كما تدل عليه ايضا وفرة السيولة المالية بين أيدي شريحة واسعة من رجال الأعمال العرب العاملة في تجارة الاستيراد من السوق الدولية والمضاربات والسوق الموازية. وترمز اليه كذلك حالة الدولة العربية المنكفئة عن تنظيم الاقتصاد وهي الميزان الأكثر تعبيرا عن صحة الاقتصاد، على عكس حالة فلسفة النظام السائد بالتمام والكمال.
[[[
لبنان بلد نموذجي في الإفلاس الاقتصادي على الرغم من البحبوحة المالية الظاهرة في حجم الاستهلاك المستورد، وعلى الرغم من فيض السيولة بين أيدي رجال الأعمال كما رأينا أثناء الاستعراض المالي المقيت في الانتخابات النيابية. فهو غير منتج لأي ثروة بما في ذلك الثروة الثقافية التي يتغنى البعض فيها وهي في معظمها ترجمة سيئة او بائسة. وقد نجحت السلطة كما نجح مترجمو ثقافة النظام السائد بتمجيد ثقافة الاستهلاك البذيء وتعميم عبودية المال فوق أي قيمة في منظومة القيم. ولم يعد للانسان «المواطن» مكان أو مكانة غيرها. وفي هذه الحلقة المدقعة المقفلة يحتل رجال المال والأعمال موقع الصدارة تحت أخامص رجال السلطة وزعماء الطوائف. تراهم يفتعلون اظهار مكانتهم في بناء القصور الفارغة على التلال العالية. او يبالغون في اظهار مواهبهم الفقيرة في السياسة والفلسفة والدين، او يتكرّمون على الشأن العام بتوزيع الحسنات والصدقات. يعبّرون في كل ذلك عن قلة طموحاتهم تقرّبا من حاشية السلطة وتعزيز المكانة غير الشرعية. بينما يفترض المنطق العقلاني بحسب تجارب بناء الدول والمجتمعات، ان هذه الفئات هي النخب التي تبني الاقتصاد الحقيقي وتقود عملية الاصلاح والتغيير تعبيرا عن طموحاتها. هي التي توظف النخب الثقافية والعلمية في اعلامها ومراكز أبحاثها ومختبراتها، وهي التي تواجه ثقافة الاستهلاك المستورد وسياسات تبعية السلطة للسوق الدولية والمصالح الأجنبية. وهي التي تفرض على الطبقة السياسية تشابك المصالح الوطنية في مصالح الحقل الاقليمي.
[[[
ان واقعة الحاج صلاح عز الدين ليست حدثا عرضيا وليست حادثة شخصية طارئة بل هي نظام اقتصادي ـ سياسي ـ ثقافي مفلس من رأسه إلى كرعوبه. ويمكننا التأكيد ان عشرات الحالات المماثلة في لبنان والعالم العربي مقبلة على اعلان الافلاس، طال الوقت أم قصر. ويتماش ذلك مع إفلاس النظام السائد واقتصادات الدول ولا يسعنا ان نلوم العائلات الفقيرة من الضحايا الحاليين والمقبلين على المغامرة، لأن أيامهم كلها مغامرة صبح مساء بسبب النظام السائد القائم على المغامرة وإلغاء كل سبل الأمن الاجتماعي. وفي كل الأحوال فإن المسؤولية دوما وأبدا هي مسؤولية السلطة والطبقة السياسية و«النخبة الاقتصادية» والثقافية، وعلى مستويات مختلفة. النظام السائد ليس قدرا وثقافة الاقتصاد الوهمي والاستهلاك البذيء ليست أكثر من ثقافة القطيع في سوق العبودية.
وفي بلد مثل لبنان يمكن خرق هذا وتلك استنادا إلى فعل المقاومة وتكاملها في الحقل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وهو لا بد تكامل حلول وبدائل. فعلى الصعيد الاقتصادي يمكن انشاء شراكة بين القطاع الخاص المحلي والقطاع العام حتى مع البلديات لانتاج الثروة المحلية: في الطاقة البديلة وفي الزراعة والأسمدة العضوية وفي التصنيع الحرفي والزراعي والصيدلي والتقنيات الغذائية ويمكن انشاء تعاونيات انتاجية وتسويقية ويمكن كذلك فرض تراجع سياسات السلطة في تبعيتها المطلقة للسوق الدولية وفرض حق التبادل في «اتفاقيات الشراكة الاوروبية». وفي هذه الورشات يمكن فتح آفاق انتاجية متعددة وكل ذلك يبدأ برؤية وخطوة. رؤية في اعادة البناء انطلاقا من البلديات طالما بقيت السلطة موكلة بتنفيذ سياسات النظام السائد وتهدد بالحرب الطائفية. وخطوة باتجاه اعادة الاعتبار للانتاج الصغير والديمومة، وإعادة الاعتبار في منظومة القيم للعامل المنتج عوضا عن المستهلك الطفيلي. وقبل هذا وذاك الطموح في اعلاء الشأن العام حفاظا على احترام كل شأن خاص.

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,767,010

عدد الزوار: 6,913,946

المتواجدون الآن: 122