تداعيات الإرهاب في أوروبا: النزعة القومية في أعلى مستوياتها

تاريخ الإضافة الإثنين 1 آب 2016 - 5:55 ص    عدد الزيارات 1602    التعليقات 0

        

 

تداعيات الإرهاب في أوروبا: النزعة القومية في أعلى مستوياتها
المستقبل..لندن ـ مراد مراد
تصاعدت منذ العام 2014 عدد الهجمات الإرهابية في أوروبا والتي تحمل في اغلب الاحيان توقيع تنظيم «داعش». وقد تبادلت الدول الاتهامات طوال الاعوام الثلاثة الاخيرة الاتهامات بشأن من يمول «داعش؟ ومن يشتري نفطه؟ ومن تتماشى مصالحه السياسية مع الآثار التي تخلفها اعتداءت «داعش» على نسيج مجتمعات الدول الاوروبية التي يستهدفها هذا التنظيم؟

بداية حمل نظام بشار الأسد وحلفاؤه الايرانيون والروس تركيا مسؤولية ظهور هذا التنظيم واتهموها بتسهيل مرور مقاتليه الاجانب عبر الحدود الشمالية لسوريا، ودخلت بعض وسائل الاعلام الاوروبية ايضا على هذا الخط متهمة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بشراء النفط الداعشي وتمويل التنظيم. اتهامات الاسد وايران وحزب الله لم تقتصر على تركيا فقط بل تعدتها الى اتهام دول الخليج العربي وفي مقدمها المملكة العربية السعودية وقطر بتمويل هذا التنظيم ومقاتليه.

وبعدما بدأ التنظيم بشن هجمات في تركيا واراضي دول الاتحاد الاوروبي، تكثفت لقاءت مجموعة «اصدقاء سوريا» وتعهد الغربيون والعرب بتجفيف مصادر اموال «داعش«. ووسط الضغوط المالية والتحقيقات التي اجرتها الخزانة الاميركية بشأن «داعش« انفضحت العلاقة بينه وبين نظام الاسد وكيف يقوم الاخير بشراء نفط الارهابيين عبر سمسار مقرب منه. ولم تتردد فرنسا باتهام النظام بتقديم خدمات متبادلة لـ»داعش«، واعتبر وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس ان الطرفين وجهان لعملة واحدة فوجود احدهما ضروري لاستمرار الآخر.

ولم تتردد بعض وسائل الاعلام الشرق اوسطية في اتهام ايران بالوقوف وراء التنظيم، لأن الاخير شن هجمات ارهابية في معظم دول المنطقة وبشكل متكرر في السعودية وتركيا ولم يقم بأي عمل ضد ايران ومصالحها، كما ان هجمات التنظيم استهدفت بشكل متكرر الدول التي تقف بوضوح شديد ضد الأسد مثل فرنسا.

وكتبت مجلة «ناتو ريفيو» شبه الناطقة باسم حلف شمال الاطلسي في خريف العام 2015 تقريرا مطولا عن تقاطع المصالح بين نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتنظيم «داعش»، فمن جهة يرتاح الاول من ارهابيي القوقاز ومتطرفيه بارسالهم الى صفوف داعش للقتال في سوريا فيكبر البعبع الداعشي بشكل يمنح متنفسا لنظام بشار الأسد كي يبدو اهون الشرين في سوريا، ومن جهة ثانية انتشار مجندي «داعش« ومؤيديه في دول الاتحاد الاوروبي وتنفيذهم اعتداءات ارهابية يدفع عجلة النفوذ السياسي في تلك الدول باتجاه الاحزاب القومية اليمينية المتطرفة الموالية لسياسات روسيا الخارجية والمعادية لكيان الاتحاد الاوروبي. لكن وقوع حادثة اعتداء «داعش» على طائرة ركاب روسية كانت في طريق عودتها من مصر اسكت الاتهامات وخلط الارواق مجددا ودفع جميع الدول الى التنسيق وتكثيف الهجمات ضد مقاتلي داعش في كل من سوريا والعراق.

وبغض النظر اكان هناك دولة كبرى او استخبارات عدة دول تقف وراء داعش« ام لا، لا شك في ان الهجمات التي يشنها التنظيم في اوروبا منذ عامين تخدم سياسيا اطرافا معينة حتى وان لم يكن للدواعش صلة مباشرة بهذه الاطراف. ويمكن الجزم بأن الخاسرين الكبار بسبب الارهاب في اوروبا هم الاتحاد الاوروبي والاحزاب التي تمثل الوسطية والاعتدال والانفتاح، اما المستفيدون الاوائل من هذا الارهاب فهم الاتحاد الروسي والاحزاب المبنية على التطرف والعنصرية والقومية.

تعرض «المستقبل» في هذا التقرير كيف أن الشعوب الاوروبية بدأت تجنح نحو التطرف كرد فعل منها على الهجمات الارهابية ذات الطابع الاسلامي المتشدد، بالاضافة الى الدور المشبوه الذي تلعبه روسيا في زعزعة الحياة الاجتماعية والسياسة داخل الدول الاوروبية.


[ انتخابات البرلمان الأوروبي 2014

بدأت شعوب دول الاتحاد الاوروبي تفقد ثقتها بالطبقة الحاكمة فيها من سياسيي يمين الوسط ويسار الوسط منذ وقوع الازمة الاقتصادية الكبرى عامي 2007 و2008. تلك الازمة فضحت فساد العديد من السياسيين واسقطت العديد من الحكومات في دول اوروبية عدة. وتعالت النداءات المطالبة بالخروج من الاتحاد الاوروبي والعودة الى الزمن الذي سبق العملة الموحدة «اليورو»، وبدأت مشاعر الكراهية ضد المهاجرين سواء من داخل اوروبا او من خارجها تتصاعد. واخذت العنصرية ضد المسلمين تحديدا تستعر وسط اندلاع ثورات الربيع العربي لا سيما مع ظهور شبح جماعة «الاخوان المسلمين» وهيمنته على اغلب دول الربيع العربي في مرحلة من المراحل، ما اثار رعبا في اوروبا من احتمال طغيان المشهد الديني على المستقبل خاصة اذا ما انعكس تبدل المشهد العربي على الجاليات الاسلامية داخل المجتمعات الاوروبية. فانتشرت التيارات والحركات العنصرية المناهضة لما سمي بـ«اسلمة اوروبا». ورغم ان عدد الاعتداءات الارهابية على الاراضي الاوروبية بين 2008 و 2014 كان محدودا نوعا ما الا ان تنظيم «داعش» كان قد بدأ بروباغندا اعلامية عبر بث فيديوات لعمليات اعدام مرعبة نفذها ذبحا في حق رهائن اجانب.

كل هذه العوامل ممتزجة مع بعضها البعض ادت الى ارتفاع نسبة النقمة الشعبية على الاحزاب التقليدية في اوروبا، ودفعت الناخبين الى الارتماء في احضان الاحزاب القومية المتطرفة المطالبة بالاستقلال عن الاتحاد الاوروبي. ولا دليل اكثر وضوحا على ذلك الواقع من انتخابات البرلمان الاوروبي التي اجريت في دول الاتحاد الاوروبي في ايار عام 2014.

فقد جاءت نتائج تلك الانتخابات صاعقة في بعض البلدان وخاصة في المملكة المتحدة وفرنسا دولتي الاتحاد الوحيدتين اللتين تملكان حق النقض الفيتو في مجلس الامن. النتيجة كانت بمثابة «زلزال سياسي حقيقي» (على حد تعبير رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس) تمثل في حصول الاحزاب المتعصبة قوميا والمطالبة بتفكيك الاتحاد على اكثر من 100 مقعد من اصل 751 في قفزة عملاقة مقارنة بالنتيجة التي حققتها تلك الاحزاب في انتخابات عام 2009.

وارتفعت الاصوات في بريطانيا مطالبة بمغادرة نائب رئيس الوزراء البريطاني نيك كليغ (في حينه) منصبه بعد الهزيمة الساحقة الذي تعرض له حزبه «الليبراليين الديموقراطيين» بفقدانه 10 مقاعد وعدم قدرته على التمسك سوى بمقعد واحد في البرلمان الاوروبي. في حين بلغت نشوة كل من زعيم حزب «استقلال المملكة المتحدة» (في حينه) نايجل فاراج وزعيمة حزب «الحبهة الوطنية» الفرنسي مارين لوبن الذروة وهما يشاهدان حزبيهما المناهضين للاتحاد الاوروبي يتربعان على عرش نتائج انتخابات البرلمان الاوروبي ويحققان المركز الاول للمرة الاولى في تاريخيهما في انتخابات شاملة كهذه. وقد اكد فاراج ولوبن ان حزبيهما سيكونان قوة سياسية لا يمكن ردعها في اي عملية ديموقراطية مقبلة في بريطانيا وفرنسا.

ويجدر هنا ذكر الارقام التي سجلت في تلك الانتخابات في كل من بريطانيا وفرنسا نظرا الى اهميتها كمؤشر الى ما ستؤول اليه الامور السياسية في هذين البلدين في المرحلة المقبلة. ففي المملكة المتحدة التي يبلغ عدد مقاعدها في البرلمان الاوروبي 73، للمرة الاولى منذ اكثر من 100 عام فشل احد اكبر حزبين في المملكة المتحدة اي «المحافظين» و»العمال« في الفوز بنتائج انتخابات شاملة تجرى في البلاد. وهكذا سحق حزب «استقلال المملكة المتحدة» منافسيه ولا سيما حزب «الليبراليين الديموقراطيين» الخاسر الاكبر، فحقق 27,5 في المئة من الاصوات مقابل 25,4 في المئة لـ«العمال» الذي حل ثانيا و23,9 لـ«المحافظين» في المركز الثالث و16,3 لاحزاب اخرى فيما لم يحرز «الليبراليين الديموقراطيين» سوى 6,9 في المئة فقط. وبالتالي حصل حزب «استقلال المملكة المتحدة» المطالب بخروج بريطانيا من اسرة الاتحاد الاوروبي على 24 مقعدا من اصل 73، مقابل 20 مقعدا لحزب «العمال» و19 مقعدا لـ«المحافظين» ومقعدين اثنين للحزب القومي الاسكتلندي (المطالب باستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة) ومقعد واحد فقط لليبراليين الديموقراطيين بعدما كان لهم 11 مقعدا في الانتخابات السابقة، اما الـ7 مقاعد المتبقية فحصل عليها مرشحون من احزاب اخرى.

اما في فرنسا التي عدد مقاعدها الاوروبية 74، فكانت قوة الزلزال السياسي مضاعفة عن قوة الهزة في بريطانيا، والسبب في ذلك هو ان فرنسا دولة مؤسسة للاتحاد الاوروبي وتقودها اليوم ادارة اشتراكية. اغلبية الناخبين الفرنسيين اعربوا عن استيائهم الشديد من ادارة فرنسوا هولاند واداروا ظهورهم ليمين الوسط المتمثل بحزب «الاتحاد من اجل حركة شعبية» (اليوم يعرف بحزب الجمهوريين) مانحين اصواتهم للحزب الاكثر تطرفا في البلاد «الجبهة الوطنية» في انذار واضح وشديد اللهجة الى بروكسل بأن الشعب الفرنسي مستاء جدا من سياسات الاتحاد الاوروبي ولذلك فضل ارسال ممثلين عنه معادين لهذا الاتحاد للجلوس على مقاعد برلمانه. وحصل «الجبهة الوطنية» على 24 مقعدا من اصل 74 مقابل 20 مقعدا للاتحاد من اجل حركة شعبية في المركز الثاني و13 مقعدا للحزب الاشتراكي الحاكم في المركز الثالث و7 مقاعد لاتحاد الديموقراطيين و6 للخضر والبيئيين و4 مقاعد لمرشحين من تيارات اخرى.

[ انقسام حول استقبال لاجئين مسلمين

ادت الغارات الجوية الأسدية والمتعددة الجنسيات في سوريا الى هروب مئات آلاف السوريين من جهنم الدمار املا في اللجوء الى الجنة الموعودة في اوروبا. وفشلت كل التحصينات التي وضعتها الدول الاوروبية على حدودها في منع المهاجرين غير الشرعيين من التسلل اليها. ولم يظهر الاتحاد الاوروبي مشرذما ومنقسما في تاريخه الى الحد الذي اظهرته به ازمة اللاجئين العام الماضي، فقد جهدت حكومات الدول الاوروبية في تحضير شعوبها نفسيا واجتماعيا واقتصاديا لإستقبال موجة اللاجئين (الشرق اوسطيين عموما والسوريين منهم خصوصا). وفي محاولة من قادة الدول لتطمين شعوبهم كان لا بد من تحديد الاعداد التي سيتم استقبالها والحديث عن الناحية الايجابية لهذا المد البشري وكيف يمكن استغلاله لصالح البلدان المستضيفة. لكن الاتفاق بين زعماء الدول انفسهم تبين مع مرور الوقت انه صعب جدا، وفي ظل غياب سياسة أوروبية مشتركة حيال ازمتي اللجوء والهجرة بدأت نهاية اتفاقية «شينغن» تلوح في الافق. واستمرت محاولات الاوروبيين في اقفال حدود بلدانهم الى حين انتشرت صور لاطفال سوريين غرقى رمت بجثثهم امواج البحر على الشواطئ التركية بعد غرق مراكبهم خلال محاولاتهم عبور المتوسط الى اليونان، وتصدرت صورة الطفل السوري ايلان الكردي عناوين وسائل الاعلام في شتى انحاء العالم، وقد ادت تلك المشاهد المؤثرة الى تليين الرأي العام الاوروبي وفرضت على الدول الاوروبية الشرقية الرافضة بشكل تام استقبال لاجئين ان ترضى في نهاية المطاف بخطة توزيع حوالى 175 الف لاجئ كان رئيس المفوضية الاوروبية جان كلود يونكر اقترحها عند استعار الازمة.

تسونامي اللاجئين العام الفائت احدث انقساما عموديا داخل اسرة الاتحاد الاوروبي. فألمانيا، كونها صاحبة اقل معدل ولادات في اوروبا الغربية وفي حاجة شبه دائمة للمزيد من اليد العاملة، استقبلت في عام 2015 حوالى مليون لاجئ اغلبهم من سوريا. واعلنت المستشارة الالمانية انغيلا ميركل ان «التدفق المذهل للاجئين إلى ألمانيا سيغير البلاد ويشغلها في الأعوام المقبلة. سنحرص على ان يكون هذا التغيير ايجابيا. وسنقوم بتسريع إجراءات دخول اللاجئين وبناء المزيد من المساكن لاستيعابهم». لكن سياسة الباب المفتوح التي تبنتها ميركل لم ترق لدول اخرى في الاتحاد مثل هنغاريا التي كانت اول دولة تسيج كامل حدودها الجنوبية والشرقية مع شتى الدول المحيطة بها من اجل اقفال المعابر في وجه اللاجئين. ثم تلتها في ذلك دول اخرى مثل سلوفاكيا وتشيكيا وسلوفينيا. واعلن رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوروبان «ان هنغاريا لن ترضى بأن يفرض عليها الاتحاد الاوروبي استقبال اللاجئين». ودعا «ميركل الى وقف استقبال المزيد من هؤلاء المهاجرين الذين يطمعون بالحياة في المانيا وليسوا من طالبي الامن». واسترسل في تصريحاته المتطرفة قائلا «ان هذا المد الاسلامي سيهدد الحياة المسيحية المرفهة». وللاسف لم يمر وقت طويل قبل ان تتعرض المانيا في العام الحالي 2016 لطعنات وهجمات ارهابية نفذها لاجئون موالون لـ»داعش«، ما ادى الى وضع ميركل في موقف حرج جدا وضاعف شعبية الجماعات والاحزاب القومية والمسيحية المتعصبة.

واستغلت عصابات عنصرية متعاطفة مع حركة «بيغيدا» (القوميون الاوروبيون ضد اسلمة الغرب) موجة الاحتجاجات في المدن الالمانية (لا سيما في درزدن) على منح اللجوء للمزيد من المسلمين، لكي ترتكب جرائم بحق المهاجرين. ولا تزال ارقام الضحايا غير واضحة بسبب صعوبة معرفة هوية اللاجئين وحصر عددهم لمعرفة عدد المفقودين منهم. هذا الواقع المرعب الذي اصطدم به السوريون الفارون من وحشية الأسد دفع بمجموعات منهم الى تمزيق طلبات اللجوء الى المانيا ومطالبة السلطات هناك بإعادتهم الى بلادهم.

ومخاوف بعض الدول الاوروبية ورفضها استقبال لاجئين مسلمين يمكن الى حد ما تفهمه، خاصة وان عام 2015 كان دمويا بامتياز خاصة في فرنسا عندما قام تنظيم «القاعدة في اليمن» بتنفيذ هجوم على مقر مجلة «شارلي ايبدو» ثم قام «داعش» بتنفيذ اعتداء مصيف سوسة في تونس قبل ان يشن اكبر هجمات في تاريخ باريس الحديث في تشرين الثاني الفائت. وهذا الوضع لم يتحسن في الاشهر السبعة الاولى من 2016 بل ازداد سوءا وامتد ليطال بلجيكا والمانيا.

ولتدارك مصيبة اللاجئين والحد من التسونامي البشري المتجه الى اوروبا، اضطر قادة دول الاتحاد الاوروبي الى طلب النجدة من تركيا لأنها الوحيدة القادرة على تجنيبهم اهوال تداعيات موجات جديدة من اللجوء. فأبرمت بروكسل مع انقرة اتفاقا لتشديد قبضة السلطات التركية على قوارب الهجرة وشبكات تجار البشر مقابل تقديم الاوروبيين مبلغا قدره حوالى 3 مليارات يورو واعادة تحريك ملف انضمام تركيا الى الاتحاد وتسهيل حصول المواطنين الاتراك على تأشيرات سفر الى الدول الاوروبية. لكن هذا الاتفاق اصبح اليوم في مهب الريح بعد تدهور العلاقة الاوروبية ـ التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشل التي تعرض لها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان.

[ خروج بريطانيا من الاتحاد

في 24 حزيران الفائت اصبح حزب «استقلال المملكة المتحدة» اول حزب قومي متشدد في اوروبا يحقق الغاية التي اسس من اجلها، بعدما افرزت صناديق الاستفتاء التاريخي في بريطانيا عن رغبة اكثرية البريطانيين في انهاء عضوية بلادهم في الاتحاد الاوروبي. نتيجة الاستفتاء دلت بوضوح على ان الشعب البريطاني قرر انه من الافضل مستقبلا لبلاده اتباع سياسة انعزالية نوعا ما لتجاوز المرحلة الدقيقة التي تمر بها اوروبا والعالم.

فتسونامي اللاجئين الذين فتحت لهم اوروبا ابوابها مرغمة، ارعب البريطانيين ولعب دورا محوريا في اتخاذهم قرار الانفصال عن الاتحاد الاوروبي، لأن قانون حرية الحركة والعمل قد يأتي بمئات الآلاف من الفرنسيين المسلمين وبعدد مشابه من اللاجئين المسلمين الذين ستمنحهم المانيا مستقبلا جنسيتها الى الاراضي البريطانية دون اي قدرة على منعهم او التحقق من خلفياتهم ومدى تطرفهم. وفي ظل ازدياد عدد الهجمات الارهابية وتغلغل الارهابيين في صفوف هذه الجاليات قرر البريطانيون ان من الافضل لهم النأي ببلادهم من هذه المخاطر حتى وان كان هناك ثمن اقتصادي قد تدفعه بريطانيا لفترة ما بسبب خروجها من الاتحاد.

وبغض النظر عن مدى صواب هذه الرؤيا البريطانية ووجود ما يبررها، الا انها لا شك مؤشر شديد الوضوح على ان سمعة الانفتاح والتسامح التي كانت بريطانيا تفتخر بها تضررت بشكل ملحوظ من نتيجة الاستفتاء. وبالطبع موضوع اللاجئين الشرق اوسطيين ليس العامل الوحيد الذي ساهم في اتخاذ البريطانيين قرار الطلاق من بروكسل، فهناك عوامل عدة اخرى ابرزها انعدام الثقة بين الشعب وقادته خاصة بعد الغزو الذي قام به رئيس الوزراء السابق طوني بلير للعراق وتبين انه مبني على كذب وفبركات.

[ الأحزاب القومية الأوفر حظاً

بينما تتخبط ادارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في مستنقع الإرهاب الذي لوث سلام فرنسا مرات عدة في العامين الاخيرين، هناك في الشارع الفرنسي من يجني الثمار السياسية لتلك الهجمات الارهابية. والجاني الاول لهذه الثمار دون منازع هو حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف. فقد بينت آخر استطلاعات الرأي في شتى المناطق الفرنسية تضاعف شعبية التيار القومي المتشدد، الذي طالما حذر في بياناته من «الاسلام المتطرف» و»المهاجرين» وطالب مرارا بخروج فرنسا من الاتحاد الاوروبي ومن معاهدة «شينغن» للحدود المفتوحة.

حتى الأمس القريب كان هولاند وفريقه والاحزاب الاخرى في البلاد بما فيها الحزب الجمهوري (اليمين المعتدل) ينتقدون بشدة مبادئ «الجبهة الوطنية» وافكار زعيمته مارين لوبن، ويصفونها بـ«العنصرية» و»المستحيلة التطبيق» في فرنسا البلد الذي يتخذ من «الحرية والمساواة والاخوة» شعارا له. لكن الاعتداءات الارهابية، التي ضربت باريس ونيس ومناطق اخرى دفعت هولاند الى اعلان حالة الطوارئ في البلاد وحملته الى اتخاذ تدابير لطالما طالبت لوبن الادارة الفرنسية باتخاذها. والرأي العام الفرنسي شاهد على ذلك، ولهذا السبب ترى غالبية الشعب الفرنسي اليوم ان لوبن كانت محقة وان فرنسا في ظل الوضع الدولي الراهن وسط تفاقم خطر الارهاب واستعار ازمة اللاجئين ربما من الافضل لها ممارسة سياسة اكثر انعزالية لن يضمنها حزب آخر في البلاد سوى «الجبهة الوطنية.

وهكذا اصبحت لوبن (48 عاما) بعد سلسلة الهجمات الارهابية التي ضربت فرنسا، مرشحا بارزا للمنافسة على رئاسة الجمهورية الفرنسية في عام 2017. والزعيمة القومية المتطرفة تدرك هذا الامر جيدا ولهذا السبب لم تفوت الفرصة بعد كل اعتداء لتذكير الفرنسيين بأنها السياسية الوحيدة في البلاد التي كانت تتوقع ما سيجري على ايدي الاسلاميين وتحذر منه.

ومع صعود نجم لوبن مجددا، يسير الوجه الخارجي لفرنسا ايضا في طريق التغيير. فالزعيمة القومية مناهضة للاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطسي (ناتو)، وهي حليف صريح وواضح جدا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خاصة بعد ورود تقارير عدة في السنوات الماضية تفيد بأن حزب «الجبهة الوطنية» يتلقى دعما ماليا من موسكو. ولهذا السبب بالذات يشك مراقبون في دور للاستخبارات الروسية في توسع الارهاب الداعشي واستهدافه فرنسا تحديدا لتحقيق هدفين: الاول هو دفع هولاند الى تغيير موقفه من بشار الأسد والكف عن المطالبة برحيله، والثاني تعزيز شعبية لوبن وحزبها في الشارع الفرنسي لتحقيق مكاسب سياسية مستقبلية للاتحاد الروسي.

وفرنسا ليست البلد الاوروبي الوحيد الذي يشهد ارتفاعا ملحوظا لشعبية الاحزاب القومية المتطرفة، فبين الدول الاخرى التي ستشهد قريبا انتخابات رئاسية او عامة ويتوقع ان يفوز فيها هذا النوع من الاحزاب. هناك النمسا التي ستشهد في الثاني من تشرين الاول المقبل اعادة للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بعدما طعن القضاء في صحة نتائج الجولة التي اجريت في ايار الفائت وفاز بها المرشح اليساري الكسندر فان در بيللين، اذ اكتشف المراقبون وجود خلل في عمليات الفرز. وتعتبر جولة الاعادة هذه فرصة سانحة بقوة لمرشح حزب «الحرية» القومي المتطرف نوبرت هوفر كي يفوز برئاسة البلاد.

اما في هولندا التي تشهد في 15 آذار 2017 الانتخابات العامة المقبلة لاختيار برلمانها الجديد الذي ستنبثق عنه حكومة جديدة. فتشير استطلاعات الراي الى حظوظ وفيرة لحزب «الحرية» الهولندي الذي يترأسه غيرت فيلدرز المعادي علنا للدين الاسلامي. وتجدر الاشارة الى ان هذا الحزب يملك حاليا 15 مقعدا نيابيا من اصل 150 في البرلمان الهولندي، لكن استطلاعات الرأي تشير الى قدرته على حصد ضعفي عدد هذه المقاعد في الانتخابات المقبلة

[ الدور الروسي

بعد تزايد الشبهات في تدخل روسي متعاظم في السياسة الداخلية لعدد من دول الاتحاد الاوروبي قررت وكالات الاستخبارات الاميركية فتح تحقيق يشمل مراجعة كاملة للانشطة الروسية في اوروبا خلال الاعوام العشرة الاخيرة. وطلب الكونغرس الاميركي الى مدير الاستخبارات القومية الاميركية جايمس كلابر اجراء مراجعة شاملة وتحقيقات تشمل السنوات بين 2005 و2016 في سبيل الكشف عن اي تمويل روسي لأحزاب سياسية في اوروبا تم في الخفاء. وهذه المراجعة تؤكد مدى قلق واشنطن من تحركات موسكو الساعية لتفتيت الاتحاد الاوروبي واضعاف الناتو وتعطيل مشروع نشر الدرع الصاروخية للحلف في وسط اوروبا والغاء العقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد الروسي منذ ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم الى بلاده.

وحذر مسؤولون كبار في الحكومة البريطانية من ان الغرب حاليا في حالة حرب باردة مع روسيا في اوروبا، اذ تبين ان التدخل الروسي مستشر داخل الشارع السياسي في عدد من دول الاتحاد الاوروبي. وتحدثت وسائل الاعلام البريطانية مؤخرا عن ملف استخباراتي غربي بعنوان «حركة النفوذ الروسي»، ويحتوي الملف على تحديد انشطة تقوم بها ادوات لبوتين في كل من فرنسا وهولندا والنمسا وهنغاريا وتشيكيا التي يتخذها رجال الاستخبارات الروسية مدخلا لهم الى داخل منطقة «شينغن» ليتنقلوا بعدها بين البلدان الاوروبية بكل حرية. وتسعى الاستخبارات الاميركية من الآن فصاعدا الى التدقيق فيما اذا كانت الاستخبارات الروسية تمول احزابا سياسية وجمعيات خيرية في دول اوروبية بغية تفتيت التلاحم السياسي الاوروبي، واحداث انتفاضة شعبية اوروبية ضد برنامج الدفاع الصاروخي الاطلسي، والقضاء على اي محاولات غربية لايجاد بديل عن الطاقة الروسية لاوروبا.

ولم يفصح المسؤولون الاميركيون والبريطانيون عن هوية الاحزاب السياسية التي سيستهدفها التحقيق، لكن يعتقد على نطاق واسع ان عمليات البحث والتحري ستشمل الاحزاب اليمينية القومية المتطرفة مثل حزب «يوبيك» في هنغاريا، وحزب «الفجر الذهبي» في اليونان، وحزب «الرابطة الشمالية» في ايطاليا، وحزب «الجبهة الوطنية» في فرنسا الذي حصل على قرض من بنك روسي عام 2014 قيمته 9 ملايين يورو. كما ستشمل التحقيقات تقارير ديبلوماسية غربية كانت اكدت حصول انشطة روسية مشبوهة في النمسا، خاصة بعدما قام نواب نمسويون بزيارة القرم مؤخرا في مسعى روسي واضح لدفع الحكومة النمسوية باتجاه الاعتراف بالضم الروسي للقرم. كما تبين ايضا ان جواسيس روساً يتنقلون حول العالم بجوازات سفر نمسوية.

وليس خافيا على احد السرور الروسي الكبير بنتيجة الاستفتاء في بريطانيا التي ستؤدي اواخر عام 2018 الى الطلاق بين لندن وبروكسل. وقد أولت موسكو ايضا اهمتاما كبيرا للاستفتاء الشعبي حول استقلال اسكتلندا الذي جرى عام 2014 وندد الروس بنتيجته واعتبروها مزورة وان المسؤولين البريطانيين مارسوا الغش بحق الشعب الاسكتلندي.

ويجد الغرب نفسه ايضا عرضة لحرب الكترونية شرسة تشنها روسيا ضده على الجبهات الاقتصادية والعسكرية والمالية والسياسية والاجتماعية. ولعل اكبر دليل على ذلك القرصنة التي تعرض لها ولا يزال يتعرض لها الحزب الديموقراطي الاميركي وقضية البريد الالكتروني لمرشحته الرئاسية هيلاري كلينتون، والاشتباه بمحاولة الروس من خلال «ويكيلكس» ايصال المرشح الجمهوري دونالد ترامب الى البيت الابيض. وقد تنبهت الحكومات الغربية مؤخرا الى الخطر الكبير الذي تشكله الحرب الالكترونية الاجتماعية التي يقودها جنود بوتين الالكترونيون، اذ شهدت شبكة الانترنت في العامين الاخيرين تصاعدا غير مسبوق في عدد حسابات الكترونية ناطقة بلغات اجنبية (غير روسية) تروج لأجندة بوتين العالمية وتمدح تدخله السافر في اوكرانيا وسوريا وتعمل على اثارة الفتن العنصرية والدينية داخل المجتمعات الغربية.

اما ميدان المعركة لجنود بوتين في العالم الافتراضي فهو المساحات المخصصة للتعليقات على ابرز المواقع الالكترونية لوسائل الاعلام والصحف الغربية الكبرى، فعلى موقع اي صحيفة بريطانية او اميركية او فرنسية او المانية يزدحم قسم التعليقات على كل خبر عسكري او سياسي بتعليقات لجنود بوتين المجهولين الذين يستترون تحت اسماء مستخدمين بريطانيين او اميركيين او فرنسيين او المان واحيانا عرب، فيكتبون جمل الاطراء والثناء على جميع مواقف روسيا وشجاعة بوتين واعتدال حلفائه كبشار الأسد، وعندما يكون الموضوع متعلقا بالاسلام في اوروبا او مشاكل السود في اميركا تجد هؤلاء يتفوهون بأقبح العبارات واكثرها عنصرية ضد المسلمين والسود وبالعكس ضد البريطانيين والفرنسيين والاميركيين والالمان بشكل يوحي لأي متصفح لموقع الصحيفة او الوسيلة الاعلامية ان حربا اهلية قد تندلع في اي لحظة في اي من البلدان الغربية ويجعله يشعر بالغضب، سواء اكان من اهل البلاد او من المهاجرين اليها، لأن لغة الكراهية تستخدم عمدا في الاتجاهين بهدف اثارة الفتن وتعزيز النعرات العنصرية والتطرف الديني. ويعتبر خبراء نفسيون ان هذا التكتيك الروسي يلعب دورا كبيراً في تأجيج مشاعر التطرف لدى المسلمين المقيمين في الغرب ويسهل على التنظيمات الارهابية مثل داعش تجنيد المزيد من الشباب المسلم المقيم في اوروبا واميركا. كما يسدي جنود روسيا الالكترونيون ايضا بذلك خدمات مجانية تدعم اجندة الاحزاب السياسية الموالية لبوتين في المناسبات الانتخابية في البلدان الاوروبية وهي غالبا احزاب قومية متطرفة.
 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,696,500

عدد الزوار: 6,908,978

المتواجدون الآن: 86