فضـاء الوطـن وحاويـات الطوائـف

تاريخ الإضافة الثلاثاء 16 كانون الأول 2008 - 10:14 ص    عدد الزيارات 1739    التعليقات 0

        

لبنـان: فضـاء الوطـن وحاويـات الطوائـف (١) 

 السيد هاني فحص
لم يعد واقعياً الحديث عن أكثرية إسلامية مقابل أكثرية مسيحية في لبنان، فقد أصبحت هناك ثلاثية أكثرية، بدل الثنائية التاريخية (من الانتداب إلى الآن) ويعرف المتابعون أن المسيحيين كانوا أكثرية في أكثر من محطة في تاريخنا القديم والحديث، سواء على المساحة المشرقية او العربيــة ثم اللبــنانية لاحقاً، وعلى العكس من الأرثوذكــس الذين جمعهم لبنان الكبير فبان حجمهم أكثر، فالموارنة فقدوا نسبة عالية من نســبتهم العدديــة الراجحة، في النقلة من المتصرفية الى لبنان الكبير مع بداية الانتداب الفرنسي وتأســيس الكيان اللبناني بالفرز والضم والحذف كمــا هو معروف.  لا بد من الانتباه الى ان مسألة العدد هي داخل التاريخ لا خارجه، وبذلك تلزمنا بقراءة المتغير في أسبابها، فنجد، مثلاً، أسباباً مركبة لتناقص عدد المسيحيين في لبنان (فضلاً عن البلاد العربية والمشرق عموما) ما يعني انه اذا أردنا ان نعالج الأمر فلا بد من تفهم أسبابه لعلاجه بدءاً منها، او التكيف مع الواقع لضرورات يقدرها كثيرون من المسيحيين في لبنان ممن كفوا عن التركيز على الموضوع.. أما الأسباب.. فإلى الهجرة المسيحية اللبنانية التي تفوق أحياناً هجرة المسلمين، الى تأثيرات الثقافة الغربية التي ليست تهمة في مفهومنا لهم، ولكنها جعلتهم أقل ميلاً الى التكاثر أملاً بالتميز النوعي. إلى أسباب سياسية جعلت المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، يحملون أعباء ما بدا وكأنه مشروع سياسي لحماية وجودهم وحضورهم، وعلى تباين مع مجريات الأمور منذ أسقطت الدولة العثمانية وسقوط الوحدة معه، وقيام توجه قومي عربي يعتمد على خطاب تأسيسي شارك المسيحيون أكثر من غيرهم في صياغته على المستوى العربي، من دون ان يمنع ذلك من مرور التوجه بالاسلام ذاكرة وثقافة وحلماً، وعلى الرغم مما يشوب هذا المرور من التباسات ومبالغات وتعارضات وصدامات (الاخوان وجمال عبد الناصر والبعث مثلا) فإنه لم يفلح في منع المخاوف المسيحية والمارونية من الاستمرار والتنامي في بعض المفاصل مستندة الى سلوكيات وخطابات في تبرير نفسها.. ولعله من اللافت ان مفكرين قوميين عربا مسيحيين لم يقصروا في إفهام المسيحيين ان المشروع القومي هو في المحصلة مستوى من مستويات الإحياء الإسلامي. عليه، وحتى الشروع في تجديد إنجاز المشروع الوطني اللبناني، دولة واجتماعا، عبر اعادة رسم الكيان جغرافيا وسياسيا، على ما ينتظر ذلك من صعوبات جمة وتعقيدات قد لا يكون الكيان اللبناني الواقع في منطقة تجاذبات وزلازل وارتدادات متتالية، قادراً على تجاوزها الى حالة من الرسوخ النهائي والواقي من كل احتمالات التجزئة، من أعلاها (كيانات انفصالية) الى الفيدرالية او الكونفيدرالية. قد يكون على اللبنانيين ان يبقوا على انتظار دائم لحركة اطراف تلك الثلاثية في اتجاه الحوار وترميم ما تهدم من أسباب وأسس ومشاهد العيش المشترك، كما في اتجاه السجال مقدمة للصراع الذي بات أكثر تعقيداً نتيجة للتداخلات بين الطوائف، التي تظهر فيها الانشقاقات الداخلية نتيجة لتعارض أنظمة مصالح مستجدة فيها مع أنظمة أخرى موروثة ومتراجعة او مهددة بالتراجع. ما يدفعها الى الاحتماء بطوائف أخرى صاعدة (شيعة) او أغنى بالضمانات (سنة) تواجه السائد في طائفتها، أي طائفة الفئة المحتمية بطائفة غير طائفتها (موارنة ١٤ آذار وموارنة الثامن من آذار مثالاً) وسوف يبقى اللبنانيون يعيشون إحباطهم، لأن وحدتهم الوطنية لم تنجز، على الرغم من طول الفرصة التي توفرت من عام ١٩٢٠ والانتداب الى عام ١٩٤٣ والاستقلال، وان كانت النواة وقتها قد تشكلت في اطار ميثاقي معروف... ولم تكن الفرصة الأخرى في ظل الاستقلال من ١٩٤٣ الى ١٩٧٥ أكثر جدوى فيما يعود الى الاندماج الوطني او الوحدة الوطنية التي تتجاوز التعايش او التساكن او التصالح او القبول على مضض بالآخر، وتعطيل بناء الدولة الجامعة، بدفع من هذه المشاعر التي راوحت بين الشعور بالخوف والشــعور بالغبـن من دون ان تخلو من المبالغة.
الى عام ١٩٧٥ كانــت النــواة قد اكتسب شيئا من اللحم الوطــني وكثــيرا من الشحوم الطائفية، أما اللحم فقد جاء مــن انخراط المجتمع بكل مكوناته في بناء الوطن، سواء أكانوا من أهل النعم او أهل النقم، مستفيدين من بدايات الدولة، كثيراً لدى المسيحيين وخاصة الموارنة، وبنسبة مقبولة إلى حين لدى السنة، ونسبة أقل لدى الشيعة والدروز، من دون ان يمنع ذلك من اســتفادة الكاثــوليك والارثـوذكس من خلال كونهم في الفضاء المسيحي العام وامتيازاته التي يصلهم منها قدر مقبول وان لم يكن كافــياً في نظــرهم، ما جعلهم، والارثوذكس خاصــة، يذهــبون الى الأحزاب القومية واليســارية للاحتجاج لأسباب مطلبية مشــوبة بحساســية طائفية او العكس. أما الفارق في الاستفادة من الكيان الجديد (لبنان الكبير) بين السنة والشيعة، لمصلحة السنة، فهو يأتي من ظروف تاريخية، منها ان الكثافة الشيعية الأولى كانت في الجنوب الموصول بالجليل وفلسطين ذاكرة وحياة، ومعروف ان شيعة الجنوب، لم يأتوا الى بيروت بصورة مكثفة الا بعد اغتصاب فلسطين وإقفال ميناء حيفا في وجههم، والكثافة الشيعية الثانية كانت في البقاع، الذي كان امتداداً لسوريا من الجولان الى دمشق الى حمص نزولا الى طرطوس واللاذقية.. بالاضافة الى هذه الظروف فان الشيعة عوقبوا فرنسياً على معارضتهم الشديدة للبنان الكبير في البداية، واحتضانهم حرب العصابات ضد الانتداب، ما أدى الى التباس الجهاد بالفتن الطائفية، متواصين في ذلك مع الملك فيصل ومشروعه على أساس الوحدة السورية، ومع الثورة السورية وقياداتها من سلطان باشا الأطرش الى ابراهيم هنانو، ولعله من هنا انضاف الى الأسباب التي حدت من استفادة الشيعة من فرص الدولة ودورة انتاجها وعملها، سبب تركيب لبنان على ثنائية مارونية سنية، على أرجحية مارونية أخذت وجهاً مسيحياً عاماً.
ولكن الشحم لم يلبث أن تزايد في جسم كل الأطراف، وأقصد الشحم الطائفي ذا الرائحة الوطنية عندما يشوى الجسم الوطني على نار الطوائف، الى ان أخذ يذوب ويسيخ عام ١٩٧٥ لأسباب اجتماعية وطنية وأسباب طائفية، حيث حولت الطوائف الوجود الفلسطيني في لبنان، والذي كان ممنوعاً عليه التمركز خارج لبنان (سوريا بعد الأردن) حوّلته الطوائف الشاطرة إلى بؤرة بتضخيم مخاوفها مسيحياً او مطامحها إسلامياً، وإسقاطها على الدولة والمجتمع.. حيث انضاف الشيعة الى السنة في هذا السياق، بعد أن كان السنة قد حسنوا وضعهم منذ عام ١٩٥٨ وتحت ظل الناصرية، ولأن الشيعة كانوا معنيين جغرافياً وبشكل مباشر بالمقاومة وأقل عناية بالدولة لطول غيابها النسبي، استظلوا المقاومة الفلسطينية، وعندما لاح لهم أن تحمل المقاومة باهظ وقد يضيّع مطالبهم، تصدى الامام موسى الصدر لتأسيس حركة المحرومين وحركة أمل بالسياسة والسلاح لتكون رافعة مستقبلية للمرتجى من الدولة. هذا في حين بقي الدروز على مكانهم الذي يتيح لهم التحرك المزدوج في اتجاه الأحزاب والطــوائف الإســلامية في حالات الضعف الدرزي طلباً للأمــان، وتأميناً للتوازن في جبل لبنان مع الموارنة. ثم العودة الى شيء من الدرزية غير النهائـية في حالة الشعور بالقوة. وعلــى كل حال فإن الحركة السياسية المتــعددة المســارب والتعرجات، من ضمن حالة التعدد او الثنائــية بين الســنة والموارنــة، أسـهمت في تقــوية ما لأســس الكيان الذي داخــل تشــكيله قــدر مــن الاصطناع، لتعــود هـذه الحركة فتــظهر وكأنها مشـروع تصديـع للكــيان عبر تصديــع الدولـة، علــى أســاس أن مـن يبـني بإمكانه أن يهدم.

لبنان فضاء الوطن وحاويات الطوائف (٢)
 

في لبنان أكثريات مذهبية ثلاث... وهذا الوصف لا يختزن مدحاً ولا ذماً، ولكن الاضطرار الى تكرار الكلام فيه يشــير إلى مخــاطر لا داعي للمبالغة فــيها، ولا داعي للتــهوين منها، خاصة أننا نشهد كل يوم ما يدل على جديتها.. واذا كان المتشبثون بلبنان الواحد، بثوابته ومتغيراته، والمصرون على الإقامة في الفضاء الرحب للعيش المشترك، الذي لا يحرم أحداً من بيته الخاص واسمه الخاص، ولا يحول البيت والاسم واللقب الى سجن مقفل على هواء الحب والحياة والشراكة... اذا كان هؤلاء أشد الناس خوفاً من الراهن على الماضي والمستقبل، فإنهم الأكثر استعدادا للصمود على أساس الاعتدال الذي اختاروه نهجا وهم يعلمون صعوبته والأثمان الباهظة التي تترتب عليه في ما يعود اليهم... وهم ليسوا من البساطة بحيث لا يدققون في حسابات الربح والخسارة، ولذلك يرون أن كل الأثمان التي يقدمونها تبقى أقل بكثير من انسجامهم مع أنفسهم، ومن احتمال قوي بعودة لبنان الى تعدديته على أساس الوحدة ووحدته على أساس التعدد.. الى العيش المشترك. بمعناه الإنساني والوطن والحضاري والايماني والتوحيدي، واذا لم يستمتعوا هم بحصاد الاعتدال وثمراته السائغة، فإن ذلك لا يحرمهم من لذاذة التحدي للسائد من أجل الحق والحقيقة، أي التسوية، لا بما هي تنازلات متبادلة، بل بما هي ترجيح للمشترك على الخلافي، حفاظاً على المشاركة وعلى الاختلاف معاً... اذا لم يستمتعوا هم، كما قلت، فإنهم سوف يفخرون بأنهم تركوا لأولادهم وأحفادهم رصيداً معنوياً يفوق كل المكاسب المحتملة على تقدير التخلي والانصياع للأمر الواقع.
وعوداً على بدء.. هناك أكثــريات إسلامية سنية وإسلامية شيعية، ومسيحــية أكثريتها من الموارنة، من دون أن تخلو صفوفهم ـ المسيحيون ـ من أسباب الضــعف، خاصة ذلك الذي يأتي من رغبة جامحة الى السلطة على مستوى زعامات المستــجدة، تلجــئها الى حاملي المشروعات العظمى التي لا تخلو مما يبعث على الظن القوي، رغم النــفي العلني المتكرر، بأن في منظور هذه المـشروعات وأهلها المساس بفاعلية المكون المسيحي للبنان، تمهيدا لاحتوائه وتوظيفه بالأجرة السياسية والاقتصادية، من خلال استثمار التعارضات القديمة والجديدة في صفوفه.
أما الأقليات المسيحية (كاثوليك وأرثوذكس وغيرهم) فإنها مهما تحاول أن تقرأ اللوحة والاحتمالات والأدوار بشكل مختلف استنادا إلى المكونات الفكرية والتاريخية المتمايزة، أو استنادا الى أنظمة المصالح التي تتباين أحيانا وتتناقض أحيانا، من دون إلغاء الإطار المشترك بينها.. مهما تحاول ذلك، تظل بحكم سريان التعصيب الإسلامي المسيحي في المفاصل واجتياحه للجميع، مرهونة كرهاً أو طوعاً بالحراك الماروني، الذي تزداد نسبة تمثيله لها في حالات الاصطفاف الديني من دون إلغاء للحساسيات المذهبية، ولكن مع تأجيلها.. وهذه الحال تشبه حال الدروز مع السنة والشيعة، أو معهما معاً.. حيث يبقى الدروز عرضة لتجاذبات متعارضــة بين ولــيد جنبلاط وخياراته السابقة والصعبة، التي لا سبيل له الى التخــلي عنها، مع اضــطراره الى العودة الى الجهر بها والإصــرار علــيها، كلما أدى كلامه الذي تفوح منه رائحة التــنصل، الى مزيد من ابتزازه أو حصاره،... بين وليد جنبلاط إذاً، وطلال أرسلان وخياراته المستجدة، على قاعدة ضرورة الاخــتلاف بصرف النظر عن الاقتناع، والتي جعلها، أي خيارات أرسلان، السابع من أيار أسهل على أرسلان وليس بالضرورة على الدروز، بما عناه الحدث للدروز جميعاً من ضرورة الانصــراف الى ترميم البيت الدرزي درءا للمخاطر والمفاسد التي لن يكون بإمكان من يتغاضى عنها إن حصلت، أن يجد عذراً أمام الطائـفة بكل حساسياتها، وهكذا كان لا بد من ترجيح مشهد الوحدة الدرزية على مشهد الانقسام التاريخي أو الموروث وان من دون تعادل... لتكون وحدة وظيفية، وعلى ترددها وقلـقها تبقى حامية للدروز، على إشكاليات تنتظر الاستحقاق الانتخابي لتــرى الى أين تؤول. هذا الواقع الشائك قد يشجـع الاطــراف الاكثرية على السعي للاستئثار والغلبة أو شراكة المتغالبين على قرص الســلطة وأنـظمة المصالح، مع الانتباه إلى أن هناك أكثرية صاعدة تطمع بالمزيد (الشيعة) وأكثريتين متراجعتين، واحدة بضمانات أمان غير قليلة وقد تكون كافية في المستقبل (السنة) وأخرى (مارونية) تحاول جهدها التقليل من الخسائر من دون مانع من زيادة الأرباح إن أمكن.
أخيرا أرجو أن يقرأ كلامي عن الطوائف في مستوى تعاملها السياسي، على أنه لا يريد ظلماً لمساحات واســعة جدا من المجتمع الأهلي الطبيعي والاعتيادي، أي الوطني، غير منسجــمة أو متحمســة، إن لم تكــن مكدّرة، من حراكات طوائفها، ومن دون أن يكون في نيتها الخروج من طوائــفها أو عــليها. واذا كان لا بد من استخدام المصطلح الذي شاع من دون تدقيق فيه (المارونية السياسية) وتوسيعه لضم أخواتها اليها.. فإني أستخدمه مضطرا.. لا بل طائعا طالمــا أنه يرفع الالتباس. 

لبنان فضاء الوطن وحاويات الطوائف (3)
 

إذا لم يتحقق التفاهم الايراني الأميركي، المتوقع حصوله، فإن الأعماق العربية (العراقية خاصة) والايرانية للشيعة في لبنان، لن تكون ضمانة كافية للاطمئنان الى السلامة، في محيط عربي مضطرب بسبب القصور الذاتي للأنظمة والتقصير المتراكم الى مستوى نوعي يحتاج علاجه الى عقل وجهد مضاعف، هذا ما حصل في الغرب من تغيير في نظره الى مصالحه وان تعارضت أحيانا، واتفقت أحيانا، من دون ان يتعدى حقيقة راسخة وليست مرشحة للزوال. على الأقل في المدى المنظور، وهي ان مجمل هذه المصالح الغربية سوف تبقى تمر بالقناة السنية أولا... بما يعني ذلك من تحمل أكلاف تدعيم النظام العربي، في وجه صعود وانتشار الاسلام السياسي الحركي المتطرف، وجمعه في الارهاب بين استهداف الداخل والخارج على السواء، ومن دون أولويات هذه المرة، ومن دون تفريق بين نظام عربي قديم ذي خطاب اسلامي/ ونظام يدعي الحداثة.
ولعل هذا المحيط العربي، على اضطرابه وحاجته إلى من يطمئنه، معني بطمأنة السنة في لبنان، بما يقتضي ذلك من مرور بالشأن المسيحي، آخذا في اعتباره نزوع عدد من السنة الى الفصال مع السائد السني الموصول بتجربة ورؤية الرئيس الشهيد رفيق الحريري وضخامة مشروعه، الذي لم يستطع اغتياله وضع حد نهائي له، وان عرقله فقد، مكّن من أخذوا على عاتقهم ان يتابعوه في بعديه التنموي والسياسي، ان يكونوا واقعيين آخذين في اعتبارهم ان التسليم الظاهري من الأصدقاء والخصوم، وترك المشروع يمر، مع مقدار من محاولات الاعاقة التي غالبها عليها الرئيس الشهيد بالتسويات الدائمة والباهظة... ان هذا التسليم لم يعد متيسرا او لم يعد مقيدا، ان اغتيال الرئيس الحريري، وكما جعل خلفه يستمر بواقعية اكثر، فانه مكن خصوم الشخص والمشروع والمتضررين منه، من السنة، مع المتوقعين لأضرار افتراضية قد تلحق بالمسيحيين، من المسيحيين، الذين يحاولون ان يحتاطوا لأمرهم بتحالفات اسلامية عامة، وشيعية خاصة، وانفتاح على دول عربية تضعها الذاكرة المسيحية، على تباين او تعارض مع الحضور المسيحي في لبنان، على الرغم من كل التوافقات التي أملتها ضرورات مشتركة، بين المسيحيين وسوريا، في زمن الجبهة اللبنانية... هؤلاء جميعاً وجدوا في غياب الحريري فرصة لإعادة تأكيد حضورهم والحفاظ على تاريخهم السياسي والزعامي المنقوص. او إزالة الموانع أمام رغبات مستجدة في السلطة والزعامة.
هل يعني هذا الكلام الذي قدمنا، انه اذا تحقق التفاهم الايراني الأميركي المتوقع، سوف يكون حال الشيعة أكثر تحرراً من القيود والسدود التي تحد من اندفاعاته التي تمر من الماضي البعيد الى الماضي القريب، مسكونة بنوع من الرغبة في الرد الميداني على عملية العزل التاريخي والحرمان الواقعي او المبالغ فيه، على اعتبار ان حال الأمة في التاريخ لم يكن معافى، كما ان حال الأفراد المواطنين في إطار طوائفهم الغالبة او المتغلية في أي بلد عربي متعدد طائفيا او إثنيا، لم تكن بأحسن حالاً من أبناء الطوائف المهمشة سياسيا، وقد تكون أسوأ في كثير من الشواهد؟؟؟
يغامر البعض بالجواب بأن من أهم عوامل النجاح المفترض في التفاهم الايراني الأميركي، هو إمساك ايران بالشيعة في البلاد العربية وغيرها، من أجل ضبطهم وإبقاء حركاتهم في نطاق الاسناد للمسلك الايراني وتقويته. وهذا قد يحتمل نوعا من الشراكة الاميركية الايرانية في الشأن الشيعي، كان له مثال أولي في فترة احتلال العراق وأفغانستان قبله، والمتوفر من المعلومات الأولية حول الممر السياسي الذي يجري توسيعه بين طهران وواشنطن أوباما، تساعد على هذه الخلاصة. ولعل من علامات ذلك، توقيع الاتفاقية الأخيرة في بغداد الذي اشتم كثيرون فيها رائحة ايرانية. أما المطلعون على الواقع فإنهم يؤكدون ان التوقيع باندفاع من الائتلاف الشيعي، ما كان ليتم لولا الرضا او غض النظر الايراني. بناء على كل ما مر، مما يؤكد ان ضمانات سلامة الطوائف في لبنان وحضورها وحيويتها هي في داخلها، او في الداخل لا في الخارج، فإنه ليس من المعلوم ان يكون المدى او العمق العربي لـ (السني) ضامنا لسلامة السنة، قياسا على ما حدث خلال الفترة الماضية من اغتيال الحريري وحتى الآن، وخاصة ان هناك نمطاً من العلائق والوقائع والمصالح العربية الايرانية تجعل المسألة أشد تعقيدا من بعض الأحلام والتوقعات التي تعتمد التبسيط الضار، بما يبعث عليه من المراهنة على الحماية العربية في واقع عربي منقسم بحدة تغري الشيعة في كل مكان بزيادة حيويتهم ومطالبتهم، وفي لبنان بالاحتياط من الغلبة عليهم، بتأسيس او توسيع شراكة مسيحية تقع تحت إغراء القوة الايراني والمال الايراني الاكثر تنظيما والأفضل إدارة من المال العربي، الى ذلك فإن الواقع السني اللبناني يغريها بتنشيط مداور للتقابل بين السنة والشيعة، على المستوى الاقليمي وصولا إلى باكستان الجاهزة دائما، والتي يمتاز الاسلام السياسي السني فيها بأنه أكثر حدة واندفاعا وحساسية من الشيعة.
هذا في حين ان هناك حديثا هامسا يصبح جهريا شيئا فشيئا، عن احتمال رضا اميركي غربي بتمرير المشروع النووي الايراني وإطالة المدة التي يحتاجها كي يصبح ذا مصداقية ردعية، في حين تكون القوة الردعية للأسلحة النووية في المنطقة قد تضاعفت من جانبها، بحيث يبقى السلاح النووي الايراني أقل خطرا... هذا بعد فشل العرب في احتواء الصراع الفلسطيني الفلسطيني، والكلام عن مشروع يستفيد من هذا الصراع ووصوله الى نهايته المنطقية المفتقرة الى المنطق وتجديد مشروع (إيغال آلون) في حل المسألة بإعادة غزة الى مصر كعبء عليها أكثر من كونها هدية لها، وإعادة الضفة الغربية الى الأردن، الذي يستمر على قناعته بضرورة تحقيق مقدار من الحكم الذاتي على الأقل في الضفة، يتخذ مدخلا ومسوغا لطرح كونفدرالية توظف المال والعمالة والخبرة الادارية والعلمية الفلسطينية، المميزة كماً ونوعا، في مشروعات تنمية أردنية يتقاطع من خلالها المال العربي مع الدولي. من دون استبعاد للمال الايراني حسب بعض المؤشرات المتأخرة. يأتي هذا في جانبه الواقع وجانبه المحتمل، مشفوعا بالتحالف الروسي الايراني القطري الغازي مقابل التكتل النفطي التاريخي الذي يتعرض الى هزات يومية تهدده بانخفاض سعر البرميل الى ٢٥ دولارا او ما دون. ولعله قد أصبح مستبعداً أكثر من أي وقت مضى، ان يكون المدى الأوروبي او الغربي عموما، قد بقي على ما كان عليه في فترات تنتمي الى زمن الاستعمار المباشر، عمقا مساندا او داعما او ضامنا للوجود او الحضور المسيحي في لبنان، كما في المشرق كله، ذلك ان الغرب ليس مسيحيا بقول نهائي، ويمكن القول بأنه شبه مسيحي، لأن مسيحيته المتبقية، لا تمنع الانقسام والصراع بين دوله وشعوبه، ما جعلها، ومن أجل الاستقرار والنمو تتدبر صيغة مركبة من أنظمة المصالح ومجموعة من القيم والحقوق المدنية، التي جعلها الاتحاد الاوروبي سقفه النظري والتنظيمي، ممتنعا عن اعلان المسيحية مكونا في الهوية الاوروبية، حذرا ربما من ذاكرة الحروب الدينية الطويلة داخل اوروبا، والتي لم يكن الاتحاد الاوروبي الا نوعا من القطيعة العميقة معها.
إذن فالغرب الأوروبي منقسم او قابل للانقسام، تحت سقف الاتحاد، لا على أساس الخلاف على كيفية او لزوم حفظ المسيحيين في لبنان او الشرق. بل على أساس التعارض او التوافق بين انظمة المصالح الوطنية الفرعية... ما قد يبرر، ولو تعسفاً، لأي حساسية مسيحية، ان تبحث عن مصلحتها ومن دون تدقيق في تحالفات أخرى، كما حصل تاريخياً مع الجبهة اللبنانية واسرائيل ويحصل الآن مع التيار الوطني الحر. في القياس محفوظا ويبقى الفارق. أما الأميركي فانه مشهود له الافراط ببرغماتيته بشرط واحد، هو ان لا تمس استقرار الدولة الصهيونية. وحتى لو وصلت الى السعي لتهجير المسيحيين من لبنان الى كندا او استراليا. كما حصل اثناء حرب السنتين من دون ان يكون المشهد المسيحي وتعامل الغرب معه الآن قادرا على استبعاد احتمالات أسوأ بحق المسيحيين في لبنان والمشرق... وإلا فما الذي فعله الأميركيون ومعهم الأوروبيون امام هذا التناقص المتواتر للوجود المسيحي في المنطقة، بدءا من فلسطين ومرورا بلبنان وانتهاء الى العراق ومصر وكل البلاد العربية من دون استثناء؟... هذا علما بأن هناك وجهات نظر مسيحية لبنانية ومشرقية اكثر توازنا وأقل خوفا خاصا على المسيحيين وأشد خوفا عاما على الجميع ومنهم المسيحيون في لبنان وغيره.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,124,272

عدد الزوار: 6,754,823

المتواجدون الآن: 103