The Back Channel....لحظة انتقال السلطة في الأردن: قوة الشراكة الحلقة (1)...إيران والقنبلة... محادثات سرية (الجزء الأول) الحلقة (2)..

تاريخ الإضافة الإثنين 13 أيار 2019 - 6:18 ص    عدد الزيارات 1614    التعليقات 0

        

لحظة انتقال السلطة في الأردن: قوة الشراكة الحلقة (1)

...The Back Channel......... (القناة الخلفية)... جريدة الجريدة..

أدى وليام ج. بيرنز، على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الدبلوماسية الأميركية، دوراً محورياً في المراحل الدبلوماسية الأكثر تأثيراً في زمنه: من نهاية الحرب الباردة السلمية إلى انهيار العلاقات بعد ذلك مع روسيا بقيادة بوتين، ومن اضطرابات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في الشرق الأوسط إلى المحادثات النووية السرية مع إيران. يسرد بيرنز في كتابه The Back Channel (القناة الخلفية) بتفاصيل دقيقة، وتحليل عميق بعض اللحظات المفصلية في مسيرته المهنية، فيستند إلى مجموعة من البرقيات والمذكرات التي رُفعت عنها السرية أخيراً ليقدّم للقارئ صورة داخلية نادرة عن الدبلوماسية الأميركية. ولا شك أن رسائله من الشيشان التي مزقتها الحرب أو معسكر القذافي الغريب في الصحراء الليبية وتحذيراته من «العاصفة المثالية»، التي ستطلقها حرب العراق، ستعيد صياغة فهمنا التاريخ، وتنير المناظرات السياسية في المستقبل، كذلك يرسم بيرنز أطر القيادة الأميركية الفاعلة في عالم لا يشبه منافسة الحرب الباردة التي لم يكن فيها رابح أو خاسر خلال سنواته الأولى كدبلوماسي، ولا «لحظة القطب الواحد» مع السيادة الأميركية التي تلت. باختصار، يشكّل هذا الكتاب، الذي ستعرض «الجريدة» ملخصا عنه في 6 حلقات قصة بليغة غنية بالمعلومات جاءت في وقتها، قصة عن حياة كُرّست لخدمة المصالح الأميركية في الخارج، كذلك يمثّل مذكِّراً قوياً بحقبة من الاضطرابات العنيفة بأن الدبلوماسية مازالت بالغة الأهمية. وفيما يلي تفاصيل الحلقة الأولى:

بدا الملك حسين في حالة مزرية، كان وجهه تعباً وشاحباً، كان الملك قد شارف على نهاية معركة طويلة مع مرض السرطان، فقد اشتد عليه المرض وكان يستعد للعودة إلى عيادة مايو كلينك في مينيسوتا، للخضوع لعملية زرع نقي عظم أخيرة، انضممت أنا وليزا إلى العائلة المالكة وإلى مجموعة صغيرة من كبار المسؤولين الأردنيين في المطار لنودّعه. تشكّل خط استقبال صغير على الدرب إلى طائرة الملك، كان يسير ببطء، مستنداً إلى عكاز بانزعاج كبير، بدا صوته ضعيفاً على نحو غريب، إلا أنه ظل ودوداً كعادته، أخبرته أن أفكارنا وصلواتنا ستكون معه، وأنه هو والأردن يستطيعان الاعتماد على دعمنا، فشدّ على يدي، وابتسم، وانحنى قليلاً ليهمس بضع كلمات تنم عن تقدير. كانت الملكة نور تقف إلى جانبه، وقد ملأ الدمع عينيها، بدت متعبة وحزينة، بيد أنها بذلت جهداً كبيراً لتبتسم، كان ولي العهد الأمير عبدالله والأميرة رانيا يقفان إلى جانب الملك حسين ونور، وقد بدت عليهما علامات الصدمة بما أنهما علما خلال الأيام القليلة الماضية أنهما سيصبحان وليَّي العهد وبعيد ذلك ملك وملكة الأردن. كانت عودتي إلى الأردن سفيرا بعد أكثر من عقد بقليل من نهاية تعييني الدبلوماسي الأول موفقة على مستويات عدة: بدا غريباً أن أحظى بفرصة العمل سفيرا في هذه المرحلة الباكرة من مسيرتي، كذلك تبيّن أن وجودي في عمان في تلك الحقبة بالذات مثير جداً للاهتمام، بما أن انتقال السلطة من حسين إلى عبدالله رمز إلى تبدل جذري أشمل في الأردن والمنطقة، كذلك كانت هذه الجولة الأكثر متعة التي أمضتها عائلتي في الخارج.

الوحدة الوطنية

مع اقترابه من السابعة والأربعين على العرش، مثّل حسين تجسيداً للأردن والضامن الوحيد للوحدة الوطنية، وتولت دائرة المخابرات العامة مراقبة المعارضة السياسية عن كثب، لكن حسين حرص من حين إلى آخر على تنفيس الاحتقان من خلال عملية تحرر سياسي مضبوطة بدقة، ففي 1989 مثلاً، سمح بإجراء انتخابات مفتوحة إلى حد كبير وتشكيل حكومة ضمت إسلاميين، كان حكمه مطلقاً، إلا أنه غلفه بالتسامح وكرم النفس النسبي، مما ميّز الأردن عن الأنظمة الأخرى في المنطقة. بحلول عام 1998، كانت العلاقات الأميركية-الأردنية وطيدة، إذ قدّمني الرئيس كلينتون ووزيرة الخارجية أولبرايت مجدداً إلى الملك حسين بصفتي مرشحهما لتولي منصب السفير خلال زيارة الملك واشنطن في شهر يونيو. كنت أشارك في الخلفية في لقاءات الملك حسين مع مسؤولين أميركيين بارزين طوال سنوات، لذلك ألفت أسلوبه اللبق وضحكته العميقة البسيطة، جمعت كلينتون بالملك علاقة ممتازة، فبدا جلياً أن الرئيس يكن احتراماً كبيراً لصواب حكم حسين وخبرته، وقد بادله الملك هذا الاحترام بإعجاب يكاد يكون أبوياً، ولا يقل وضوحاً لذكائه والتزامه بالسلام العربي-الإسرائيلي.

صراعه مع المرض

من غرفته في المستشفى في مينيسوتا في شهر يوليو عام 1998، قدّم الملك حسين مقابلة متلفزة هزت مشاهديه في الأردن. قال بابتسامة واهية: «شخّص الأطباء إصابتي بالليمفوما، إصابتي بالسرطان معركة جديدة آمل الفوز بها». امتلك الملك حسين سبباً للتفاؤل، فكان لايزال في الثانية والستين من عمره، فضلاً عن أنه سبق أن انتصر على سرطان المثانة في وقت سابق من ذلك العقد، كذلك تولى علاجه في عيادة مايو كلينك أحد أفضل فرق الأطباء في العالم. لكن الأردنيين شعروا بالقلق، فأخو الملك الأصغر سناً، حسن، كان ولي العهد منذ 1965 حين قرر الملك وسط موجة حادة جداً من التهديدات بالاغتيال أن من غير المسؤول أن يبقي ابنه البكر عبدالله، الذي كان آنذاك في الثالثة من عمره، خلفه، فتفصل بين حسين وحسن إحدى عشرة سنة، إلا أن الاختلاف بين شخصيتيهما بدا أكثر اتساعاً. تمتع الملك بعفويته وطاقته التي لا تنضب برابط سلس مع الأردنيين في الوطن، وشيوخ البدو في الصحراء، والوحدات العسكرية في الميدان. في المقابل، بدا حسن شخصاً مثقفاً، وقد صعب تخيله وهو يقف على سطح دبابة ليخاطب جنوده، كما فعل حسين مرات عدة على مر السنين. قد يبدو حسن، الذي حصّل تعليمه في أكسفورد، ويملك ثقافة واسعة، منفصلاً قليلاً عن عالم معظم الأردنيين، وقد أبرزت انفصاله هذا صورة عيد ميلاده الرسمية عام 1998، حين ظهر بلباس لعبة البولو الكامل مع الخوذة، والمضرب، والسروال الضيق، وكان يمتطي صهوة جواده المفضل.

رحلة نهرية مع عدي أشعرت عبدالله وفيصل بالرعب

لم يملك الملك عبدالله أي أوهام بشأن صدام، فلقاءاته الخاصة على مر السنين مع القيادة العراقية جاءت مخيبة للآمال وأحياناً غريبة، أخبرني الملك عبدالله ذات مرة عن لقاء غريب على نحو استثنائي، قبل بضع سنوات، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أرسل الملك حسين عبدالله وأخاه الأصغر سناً الأمير فيصل إلى بغداد ليتعرفا إلى ابنَي صدام عدي وقصي حسين. ما كان عدي، الذي كان لايزال آنذاك في عشرينياته، قد كسب الشهرة الكبيرة التي حققها لاحقاً، عندما راح يستعرض بانتظام الأسود التي يربيها كحيوانات أليفة في قصره في بغداد، ويضرب أعضاء فريق كرة القدم الوطني العراقي بسبب خسارتهم مباريات، ويخطف ويغتصب طالبات جامعيات عراقيات لفتن نظره. في المقابل، بدا قصي أقل منه إجراماً، مع أنه كان قد بدأ يعزز سمعته بأنه حقاً ابن أبيه بممارساته الوحشية المريعة. في اليوم التالي من الزيارة، اصطحب المضيفان عبدالله وفيصل في رحلة بالقارب في بحيرة كبيرة من صنع الإنسان خارج بغداد، كان الأميران يتوقعان إمضاء فترة بعد ظهر هادئة، إلا أن عدي سحب فجأة قاذفاً صاروخياً (آر بي جي) وأطلقه أمام قارب أمنه الخاص على بعد ياردات قليلة. لم يتعرض أحد للأذى، غير أن عدي لم يأبه لاحتمال وقوع إصابات، وتصرف كما لو أن هذه مجرد طريقة أخرى لقضاء وقتت ممتع بعد الظهر، فشعر عبدالله وفيصل بالرعب، وأكد لي الملك عبدالله: «تجمعني علاقة جيدة بالكثير من قادة المنطقة ممن هم في مثل جيلي، إلا أن عدي ليس واحداً منهم». كثرت في فصلي الخريف والشتاء آنذاك التقلبات بشأن صحة الملك وخلافته، لذلك شملت مهمتي الرئيسة أن أضع يد الولايات المتحدة على كتف الأردن وأبذل قصارى جهدي، للمساهمة في الحفاظ على استقرار، بلد اعتمدت عليه الولايات المتحدة اعتماداً كبيراً. أكبرُ الأمير عبدالله ببضع سنوات، وأمضى سنة في جامعة أكسفورد بعيد تخرجي فيها، لكننا تشاركنا في المعلم الأكاديمي ذاته، ألبرت حوراني. في تلك المرحلة، وصف لي حوراني عبدالله في رسالة، كاتباً أنه «ذكي وودود»، إلا أنه إنسان «صُمم لحياة مليئة بالعمل ولا تقتصر على الكتب». حاول ولي العهد حسن التأكيد أنه يستطيع إدارة شؤون الدولة في غياب حسين من دون أن يبدو كما لو أنه يغتصب سلطة الملك. بطلب من الرئيس كلينتون، سافر حسين بالطائرة من عيادة مايو كلينك إلى واشنطن في أواخر شهر أكتوبر، للمساهمة في دفع الإسرائيليين والفلسطينيين نحو التسوية في المحادثات التي عُقدت في واي بلانتيشن على الضفة الشرقية من ماريلاند. كان للملك تأثير سحري، وقد أدى دوراً مهماً في ولادة مذكرة واي ريفر التي اتفق فيها الفلسطينيون والإسرائيليون أخيراً على تطبيق إعادة الانتشار واتفاقات مؤقتة أخرى بشأن الضفة الغربية تم التوافق بشأنها قبل بضع سنوات. في السابع من فبراير، توفي الملك حسين، وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، تحدثت مجدداً إلى الملك عبدالله، بدا حزيناً إنما هادئ فيما راح يستعد لما دعاه البعض لاحقاً «جنازة القرن». بعثت 75 دولة ممثلين عنها، كذلك سافر كلينتون ليلاً للمشاركة، ورافقته السيدة الأولى وثلاثة رؤساء سابقين: جورج بوش الابن، وجيمي كارتر، وجيرالد فورد. هناك في إحدى الزوايا جلس الوفد الإسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء نتنياهو، الذي راح ينظر بحذر عبر الغرفة إلى حافظ الأسد، الذي كانت صحته هو أيضاً قد بدأت تتدهور، إلا أنه أراد الحضور ليعرب على نحو غريب عن إعجابه بالحاكم الهاشمي الذي حاول جاهداً تقويض حكمه على مر السنين. على مقربة من الإسرائيليين وقف خالد مشعل، زعيم «حماس»، الذي أخفق جهاز الموساد في اغتياله قبل سنة في وسط مدينة عمان، وراح عرفات يدردش بود مع مبارك، في حين راح نائب الرئيس العراقي طه محيي الدين معروف يحدّق من بعيد، ممثلاً صدام حسين، الذي كان قبل شهر فقط قد مارس مناورته الدبلوماسية المعتادة، واصفاً علانية الملك حسين بـ»قزم العرش». كذلك كان أحد أبناء معمر القذافي يتكلم مع ولي العهد السعودي الأمير عبدالله، وجاء أيضاً رئيس الوزراء توني بلير، والأمير تشارلز من لندن، والرئيس جاك شيراك من باريس. حتى بوريس يلتسين حضر، مع أنه كان مريضاً ومشوش الذهن، جلس في إحدى زوايا الغرفة وقد عاونه اثنان من مساعديه، قدِم يلتسن لأنه أراد تكريم الملك حسين، ولأنه لم يشأ تفويت تجمع مماثل لنظرائه، وراح الرئيس بيل كلينتون يتنقل في الغرفة، لأنه الوحيد الذي كان قادراً على ذلك، فأخذ يصافح نظراءه، ويواسي أفراد العائلة المالكة الأردنية، وبحلول المساء انتهت مراسم التشييع البسيطة، فغادرت طائرة الرئيس الأميركي، ورحلت الوفود الأخرى إلى أوطانها، وهكذا تُرك الأردنيون ليتأملوا العالم المعقد أمامهم من دون القائد الوحيد الذي لم يعرف كثيرون منهم حاكماً غيره.

إعادة الطمأنينة

أخذني كلينتون جانباً في مرحلة ما من جنازة الملك حسين فيما كنا نسير على المدرج متوجهين إلى الطائرة الرئاسية وإلى رحلة عودته إلى واشنطن، قال لي: «ستتمحور الأشهر القليلة المقبلة حول إعادة الطمأنينة والتشجيع، وأعتمد عليك لتساعد هؤلاء الناس، أخبرنا فقط بما تحتاج إليه». وقد وفى الرئيس بوعده، فخلال السنتين التاليتين، أولت الولايات المتحدة الأردن اهتماماً بالغاً، وأعتقد أن هذا كان في صميم مصلحتنا. في اليوم التالي للتشييع، أصدر كلينتون بياناً شدد فيه على ثقته بالاقتصاد الأردني، وأكّد أنه سيطلب من الكونغرس 300 مليون دولار كمساعدات عسكرية واقتصادية إضافية. وعندما وقّع كلينتون والملك عبدالله أخيراً اتفاق التجارة الحرة في أكتوبر 2000، شكلت هذه الخطوة دليل ثقة بالأردن بدا سياسياً بقدر ما هو اقتصادي، وفي الوقت عينه، اضطلع الملك عبدالله بدوره الجديد باندفاع وطاقة كبيرين.

حرب الخليج

منذ انتهاء حرب الخليج في ربيع عام 1991، بذلت الولايات المتحدة جهودا مضنية لاحتواء صدام حسين، وحماية الأكراد، ومنع العراق من تهديد جيرانه. في بداية عهد كلينتون، حاك صدام حسين مؤامرة فاشلة لاغتيال الرئيس السابق بوش في الكويت، فرد كلينتون بضربات صاروخية ضد العراق، وعلى مر السنين، تحدى صدام دورياً القوات الجوية الأميركية التي كانت تفرض الحظر الجوي، وكانت الولايات المتحدة ترد، بالإضافة إلى ذلك، أغضب العراقيون الأميركيين بسبب مناورة «الغش والانسحاب» التي طبقوها في تعاطيهم مع لجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش، رافضين السماح لها بدخول مواقع فترات طويلة، ومن ثم تكرار العملية المثيرة للاستياء ذاتها، كذلك صنّف صدام 8 مجمعات كبيرة تضم أكثر من ألف مبنى قصوراً رئاسية، مما عفاها بالتالي من التفتيش، لذلك أطلقت الولايات المتحدة في ديسمبر عام 1998 عملية «ثعلب الصحراء»، بهدف معاقبة صدام حسين على انتهاكاته.

قلق أردني متزايد

بعد جلوس عبدالله على العرش، ازداد قلقاً حيال الاتجاه الذي سلكته السياسة الأميركية بشأن العراق، وكما أكّد لي بقلق متنامٍ في عامَي 1999 و2000، اعتبر الملك أن سياسة العقوبات الغربية تهزم ذاتها. فنجح صدام في التلاعب ببرنامج الأمم المتحدة «النفط مقابل الغذاء»، الذي هدف إلى التخفيف من معاناة المواطنين العاديين، بهدف تعزيز قبضته على زمام السلطة. نحو أواخر عام 2000، أخبرني عبدالله: «يبدو احتمال أن يموت صدام من جراء نيزك أكبر من احتمال أن تقوّض هذه العقوبات حكمه». وبحلول نهاية عهد كلينتون، كان الملك يشدد مراراً على أن الولايات المتحدة تساعد صدام ولا تضره، لأنها تسمح له بتأدية دور الضحية واستغلال الوضع الإقليمي الذي يزداد توتراً، وأصر الملك عبدالله أيضاً على ضرورة أن تتخلى واشنطن عن العقوبات الاقتصادية أو المدنية لتعزز في المقابل التدابير، التي تعوق استيراد الأسلحة أو السلع التي لها استعمالات مزدوجة.

اتفاقات السلام بعد تتويج عبدالله ملكا

عندما أصبح عبدالله ملكاً، بدت الأوضاع أكثر إيجابية في الجهة المقابلة من النهر، فشكّل اتفاق واي ريفر الخطوة التصاعدية الأخيرة نحو حل إقامة دولتين الذي تبنته اتفاقات أوسلو عام 1993. وفي شهر مايو عام 1999، فاز زعيم العمال إيهود باراك في الانتخابات الإسرائيلية، مطيحاً بزعيم الليكود بنيامين نتنياهو، الذي ما كان الملك حسين ولا ابنه الملك عبدالله يثقان به. في مرحلة باكرة من عهد باراك، حُدد هدف جديد في شهر سبتمبر عام 2000 لإنهاء التفاوض بشأن وضع الضفة الغربية وقطاع غزة الدائم، وقد شكّلت هذا الفصل الأخير في سلسلة من تبديل المعايير منذ أوسلو، لكن باراك قرر أولاً التركيز على التفاوض مع سورية.

وفد سوري وآخر إسرائيلي في أميركا

في يناير 2000، استضافت الولايات المتحدة وفدين هما: إسرائيلي وسوري في شيبردستاون غرب فيرجينيا، ثم عاد كلينتون وباراك إلى المحادثات مع الفلسطينيين بتركيز متجدد، فشكّلت هذه مغامرة كبيرة، فقد كان الإسرائيليون والفلسطينيون متباعدين جداً بشأن كيفية إعادة الضفة الغربية وأكثر تباعداً بعد حيال مسألتَي القدس وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة. خشي عرفات أن يُحمَّل مسؤولية انهيار المحادثات، وكان يدرك مدى عمق خيبة الأمل التي شعر بها الفلسطينيون، بعدما ظلت توقعات أوسلو مجرد حبر على ورق طوال سنوات، وبما أن عرفات لم يكن يوماً ميالاً إلى المخاطرة الدبلوماسية، قدِم إلى «كامب ديفيد» بتردد واضح، متمسكاً بالاستثمار الذي وضعه في كلينتون والقيادة الأميركية وواثقاً من أنه يستطيع دوماً التملص من أي وضع سياسي صعب إذا دعت الحاجة. رغم الوعود الأولى التي قُطعت للفلسطينيين، يبدو أن الولايات المتحدة خرجت من «كامب ديفيد» لتلوم عرفات على إخفاق القمة، ومع تنامي الغضب الشعبي الفلسطيني، أشعلت زيارة شارون للحرم القدسي الشريف في أواخر شهر سبتمبر عاصفة سياسية نارية، ومن العنف الذي نجم، وُلدت انتفاضة فلسطينية جديدة.

اجتماع شرم الشيخ

رافقتُ الملك عبدالله إلى اجتماع في شرم الشيخ، حيث دعا مبارك باراك، وعرفات، وكلينتون بهدف التوصل إلى طريقة للتخفيف من العنف، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، بدا الإسرائيليون مصممين على إفهام الفلسطينيين أن العنف لن يؤدي إلى أي نتائج سياسية إيجابية، ونتيجة لذلك، جاءت قوة ردودهم غالباً مبالغاً فيها، في المقابل، أدى عرفات، الذي كان يولي المزاج الشعبي اهتماماً كبيراً وما كان يتردد في اللجوء إلى العنف إذا كان يساهم في الحفاظ على مكانته بصفته القائد السياسي المهيمن، لعبة مزدوجة غالباً. على غرارنا جميعاً، شعر الملك عبدالله بالقلق حيال حالة الجمود الدبلوماسي وتزايد أعمال العنف الإسرائيلية-الفلسطينية. لم أعمل مطلقاً مع إنسان أكن له الاحترام بقدر باول، وسُررت كثيراً لما قد تحمله قيادته للسياسة الخارجية الأميركية. وافق مجلس الشيوخ على تعييني في شهر أبريل، وبدأت عملي الجديد في الحال، دعانا الملك والملكة أنا وليزا إلى العقبة لنقضي نهاية الأسبوع هناك قبل رحيلنا. كنت قد أمضيت في الأردن ثلاث سنوات مذهلة، وأخبرت الملك بمدى فرحي، لأنني حظيت بفرصة العمل معه والمكانة التي سيحتلها الأردن دوماً في قلبي وقلب عائلتي. أجابني: «لم يتوقع أي منا المسائل التي تعرضنا لها، أنا فخور بما حققناه معاً، ويجب أن تشعر أنت أيضاً بالفخر».

عبدالله يزور الأسد بعد شهرين من جنازة والده

سافر عبدالله إلى دمشق في أبريل 1999 بعد شهرين على مشاركة الأسد غير المتوقعة في تشييع الملك حسين، واصطحب بشار الأسد الملك إلى معقل العلويين في اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط، وتنقلا معاً بالسيارة في المدينة طوال ساعات فيما راحا يتحادثان عن المنطقة والعالم. لم يتفاجأ الملك كثيراً من سذاجة بشار الظاهرية، فقد سأل عبدالله في مرحلة ما عن تأثير الاختلاف في التوقيت عند السفر بالطائرة، مؤكداً له أن أطول رحلة قام بها كانت السفر إلى لندن والعودة إلى سورية، إلا أن الملك اعتبر أن بشار قد ينجح في كسر بعض عادات والده المتشددة والمضي قدماً في أي تقدّم قد يحققه مع الإسرائيليين، لكن الملك اعترف لي بأسى بعد سنوات: «يا له من انطباع أولي!».

إيران والقنبلة... محادثات سرية (الجزء الأول) الحلقة (2)

The Back Channel (القناة الخلفية)

أدى وليام ج. بيرنز، على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الدبلوماسية الأميركية، دوراً محورياً في المراحل الدبلوماسية الأكثر تأثيراً في زمنه: من نهاية الحرب الباردة السلمية إلى انهيار العلاقات بعد الحرب الباردة مع روسيا بقيادة بوتين، ومن اضطرابات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في الشرق الأوسط إلى المحادثات النووية السرية مع إيران.

يسرد بيرنز في كتابه The Back Channel (القناة الخلفية) بتفاصيل دقيقة، وتحليل عميق بعض اللحظات المفصلية في مسيرته المهنية، فيستند إلى مجموعة من البرقيات والمذكرات التي رُفعت عنها السرية أخيراً ليقدّم للقارئ صورة داخلية نادرة عن الدبلوماسية الأميركية.

ولا شك أن رسائله من الشيشان التي مزقتها الحرب أو معسكر القذافي الغريب في الصحراء الليبية وتحذيراته من "العاصفة المثالية" التي ستطلقها حرب العراق ستعيد صياغة فهمنا التاريخ، وتنير المناظرات السياسية في المستقبل، كذلك يرسم بيرنز أطر القيادة الأميركية الفاعلة في عالم لا يشبه منافسة الحرب الباردة التي لم يكن فيها رابح أو خاسر خلال سنواته الأولى كدبلوماسي، ولا "لحظة القطب الواحد" مع السيادة الأميركية التي تلت.

باختصار، يشكّل كتاب The Back Channel، الذي ستعرض "الجريدة" ملخصاً عنه في 6 حلقات قصة بليغة غنية بالمعلومات جاءت في وقتها، قصة عن حياة كُرّست لخدمة المصالح الأميركية في الخارج، كذلك يمثّل مذكِّراً قوياً بحقبة من الاضطرابات العنيفة بأن الدبلوماسية مازالت بالغة الأهمية. وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثانية:

ركبتُ في وقت متأخر من إحدى ليالي فبراير 2013 طائرة من طائرات «غلف ستريم» التابعة للحكومة الأميركية لا تحمل أي علامات، كانت مركونة على مدرج مهجور في قاعدة أندروز الجوية، كانت كلمات وزير الخارجية (جون) كيري الوداعية، التي ذكرها بتفاؤله وثقته المعهودين، لا تزال ترن في رأسي: «أمامنا فرصة دبلوماسية لا تتكرر»، لكنني لم أكن واثقاً بقدرته.

أمضيت الجزء الأكبر من رحلة السبع عشرة ساعة إلى سلطنة عمان وأنا أراجع كتب تقارير، وأناقش الاستراتيجية والتكتيكات مع فريقنا المفاوض، وأحاول أن أستوعب بالكامل المهمة التي تكمن أمامنا، كانت قد مرت خمس وثلاثون سنة لم تحظَ فيها الولايات المتحدة وإيران باتصال دبلوماسي مستدام، كذلك كان لكل طرف تجارب سيئة مع الآخر، مما عزز عدم الثقة المتبادل بينهما، بالإضافة إلى ذلك، كانت الرهانات الدبلوماسية كبيرة مع تسارع برنامج إيران النووي وتنامي احتمال نشوب صراع عسكري بيننا. بدت أيضاً السياسات في عاصمتينا متفجرة مع تقلص هامش المناورة الدبلوماسية، أما الدبلوماسية الدولية فتعطلت مع افتقار تبادلاتها العشوائية حتى الآن إلى عنصر أساسي: مناقشة مباشرة بين الخصمين الرئيسين الولايات المتحدة وإيران.

الدبلوماسية وحماية المصالح

كما أوضح (الرئيس باراك) أوباما خلال حملته الرئاسية، سعى إلى عهد يحد فيه من حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ويجعل الدبلوماسية الأداة الأولى لحماية المصالح الأميركية. عثر أوباما في هيلاري كلينتون على شريك فاعل في دبلوماسيته بشأن إيران، كانت بطبيعتها أكثر حذراً حيال التحاور مع الإيرانيين وأكثر تشكيكاً في احتمال التوصل يوماً إلى اتفاق يمنع طهران من تطوير قنبلة، لكنها أقرت بأن الحوار المباشر يشكّل الطريقة الفضلى لاختبار جدية الإيرانيين والاستثمار في الوقت عينه في ائتلاف دولي أشمل يُعتبر ضرورياً لزيادة الضغط على إيران في حال أخفقت تلك الاختبارات الأولى. بعد ثلاثة أيام على إدلائها القسم وتسلمها منصب وزير الخارجية، بعثتُ بمذكرة إلى كلينتون عنونتها «استراتيجية جديدة بشأن إيران». بدأت بمحاولة تلخيص هدفنا الرئيس:

بما أن إيران لاعب إقليمي مهم، يجب أن يكون هدفنا الرئيس السعي إلى التوصل إلى أسس طويلة الأمد للتعايش مع النفوذ الإيراني مع الحد في الوقت عينه من التعديات الإيرانية بهدف تغيير سلوك إيران لا نظامها. ويعني هذا من بين أمور كثيرة منع إيران من اكتساب القدرة على تطوير أسلحة نووية، توجيه سلوكها كي لا تهدد مصالحنا الأساسية التي تقوم على بناء دولة عراقية مستقرة وموحدة ودولة أفغانية لا تشكّل منصة لتصدير التطرف العنيف، والحد تدريجياً من قدرة إيران على تهديدنا وتهديد أصدقائنا من خلال دعم مجموعات إرهابية. كذلك يجب أن نندد دوماً بانتهاكات حقوق الإنسان في إيران. قدّمتُ حججاً تدعم تبني مقاربة شاملة، وعلى غرار ما اتبعناه مع الصين في مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدا منطقياً أن نطبق تكتيكات حذرة تصاعدية في البداية، إنما يجب أن تشكّل جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد. ذكرتُ: «يجب أن نرسي من البداية مقداراً من الاحترام والالتزام بغية توجيه التحاور، بغض النظر عن مدى حدة اختلافاتنا». وتابعتُ محدِّداً ما بدا جلياً: «يتطلب التعاطي مع إيران مقداراً كبيراً من الصبر، والإصرار، والمثابرة. فبما أن النخبة الإيرانية تؤمن بعمق بنظريات المؤامرة، ترتاب دوماً بدوافع الولايات المتحدة، وتضم عدداً كبيراً من الفصائل التواقة خصوصاً إلى تقويض أحدها الآخر خلال مرحلة الاستعداد للانتخابات الرئاسية الإيرانية في شهر يونيو، ستكون أكثر ميلاً إلى الخداع والبدايات الكاذبة»، يجب ألا نقلل من أهمية واقع أن عداوة الولايات المتحدة مثلت بالنسبة إلى القائد الأعلى والرجال المتشددين المحيطين به أحد مبادئ النظام الأساسية. لكني أضفتُ: «ينبغي أن نتعاطى مع النظام الإيراني كلاعب موحّد، مدركين أن القائد الأعلى (لا الرئيس) السلطة العليا. فقد أخفقنا باستمرار في الماضي عندما حاولنا تأليب فصيل على آخر».

سوء إدارة

شددتُ أيضاً على ضرورة ألا ننسى نقاط ضعف إيران، وكتبتُ: «إيران خصم مذهل... إلا أنها ليست عملاقاً. يعاني اقتصادها سوء إدارة فادحاً مع ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، فضلاً عن أنها سريعة التأثر بانخفاض أسعار النفط الحاد المتواصل واعتمادها على منتجات النفط المكررة. كذلك لا تملك إيران أصدقاء حقيقيين في الجوار، لا يثق بها العرب والأتراك في المنطقة، ويتعاطى معها الروس بتعالٍ والأفغان بريبة». أخيراً، شددتُ: «يجب أن نتنبه دوماً خلال تعاملنا مع إيران لمخاوف أصدقائنا، فضلاً عن فئات الشعب الرئيسة في بلدانهم». حذّرتُ من أن شركاءنا العرب السنة سيخشون أن نتخلى عنهم في سبيل علاقة ود فارسية جديدة. كذلك سيشعر الإسرائيليون بالقلق على أقل تقدير نظراً إلى الخطر الواضح الذي يواجهونه من المجموعات التابعة لإيران وبرنامجَيها النووي والصاروخي، كذلك سنصطدم بصعوبة كبيرة في التعاطي مع الكونغرس ونفوره العام من التعاطي بجدية مع إيران، وأكّدت أيضاً: «علينا أن نحرص على تحدث الإدارة بصوت واحد وتفادي الانقسامات التي شابت الإدارة السابقة». اقتنعت كلينتون بطرحي هذا وخصصت المهارات والوسائل الضرورية لإنجاز هذه المهمة، وبدا أوباما أيضاً تواقاً للبدء، وعقد سلسلة من الاجتماعات في مطلع عام 2009 بغية التوصل إلى استراتيجية واسعة قريبة من تلك التي عرضتُها على وزيرة الخارجية، فقد ورث أوباما وضعاً معقداً في المسألة الإيرانية، وعندما أخبر الإيرانيين في خطابِ تسلُّمه منصبه في 20 يناير: «سنمد يداً إن كنتم مستعدين لفتح قبضتكم»، كانت طهران قد كدّست ما يكفي من اليورانيوم المنخفض التخصيب لتطوير سلاح نووي، كذلك كانت أنظمتها الصاروخية قد حققت تقدماً كبيراً، صحيح أننا لم نملك أدلة تثبت إعادة إحياء إيران جهودها الباكرة لتطوير أسلحة نووية، لكننا لم نستطع أيضاً الجزم في هذا المجال. في مارس، بعث الرئيس برسالة تهنئة مصوّرة بمناسبة عيد النوروز إلى الشعب الإيراني، وفي إشارة ضمنية إلى أنه لا يرغب في تغيير النظام بالقوة، سمّى الحكومة باسمها الرسمي: الجمهورية الإسلامية.

استعداد للتحاور

في مطلع مايو، بعث الرئيس برسالة طويلة سرية إلى آية الله خامنئي، وكان صريحاً بشأن تصميمه الراسخ على منع إيران من امتلاك أسلحة نووية ودعمه موقف مجموعة 5+1 الداعي إلى أن إيران تملك الحق ببرنامج نووي مدني سلمي، وردّ القائد الأعلى بعد بضعة أسابيع، صحيح أنه لم يقدّم أي ردّ صريح على عرض الرئيس خوض حوار مباشر، لكننا فهمنا خطوته هذه على أنها إشارة جدية إلى استعداده للتحاور. فجاء رد أوباما سريعاً في رسالة قصيرة اقترح فيها إقامة قناة محادثات سرية واختارني أنا وبونيت تالوار، موظف بارز في مجلس الأمن القومي، لنكون مبعوثَيه. لكن كل هذا الزخم المتقلقل، الذي بدا مشجِّعاً إلى حد ما نظراً إلى الاضطرابات المعهودة في تعاطينا مع إيران، توقف فجأة حين تحوّلت الانتخابات الرئاسية الإيرانية في شهر يونيو إلى حمام دم. قاد تلاعب النظام بصناديق الاقتراع وقمع الحركة الخضراء المعارِضة الفاعلة على نحو مفاجئ إلى أعمال عنف في الشارع وثّقها مواطنون إيرانيون يحملون هواتف خليوية وبُثت حول العالم بطريقة مأساوية واسعة. قمعت الحكومة الشعب بوحشيتها المعهودة: ضربت الميليشيات شبه العسكرية المتظاهرين، واعتُقل الآلاف، وقُتل العشرات، فجاء رد فعل البيت الأبيض خجولاً في البداية، لكن هذا الخجل لم يرتبط بالخوف من تقويض جهود المحادثات الناشئة بقدر ارتباطه بالامتناع عن خنق رسالة قادة الحركة الخضراء بالدعم الأميركي والسماح للنظام بتصويرهم كدمى بيد الولايات المتحدة. ولكن عندما نتأمل تلك الأحداث اليوم، ندرك أنه كان علينا أن نتجاهل تلك الاعتبارات وأن نكون أكثر حدة في انتقادنا العلني منذ البداية. لا يُعتبر هذا الانتقاد، الذي بلغ الحدة المطلوبة في النهاية، الخطوة المناسبة فحسب، بل شكّل أيضاً مذكّراً مفيداً للنظام الإيراني بأننا لسنا تواقين إلى بدء المحادثات النووية إلى درجة نغض معها النظر عن أنماط السلوك المهدِّدة، سواء كانت موجهة نحو المواطنين الإيرانيين أو أصدقائنا في المنطقة.

التصميم على منع إيران من تطوير قنبلة وتحميلها مسؤولية التزاماتها الدولية

في التاسع عشر من يوليو 2008 في جنيف، وسط اهتمام كبير من وسائل الإعلام، كسرتُ أحد المحظورات بشأن المشاركة الأميركية المباشرة في المحادثات النووية، وانضممت إلى زملائي في مجموعة 5+1 حول طاولة بيضاوية في صالة اجتماعات مكتظة في هذه المدينة القديمة، ذكّرتني وزيرة الخارجية وستيف هادلي بألا أرسم أي تعابير على وجهي وأن أبدو عابساً بالقدر الملائم فيما راحت الكاميرات تصور افتتاح الجلسة الأولى. كذلك اقترحا عليّ أن أظل ساكتاً طوال المحادثات وأن أتأمل فحسب رد الإيرانيين على (المنسق السابق للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير) سولانا، وبدت لي النقطة الأولى منطقية، أما الثانية فلا، فإذا كان الهدف من الانضمام إلى المحادثات التشديد على جديتنا وإظهار إيران بمظهر الولد الدبلوماسي المشاغب، فقد يؤدي السكوت إلى نتائج عكسية. نظرتُ عبر الطاولة مباشرةً إلى سعيد جليلي وتفوهت بعبارة بسيطة قائلاً: إنني آمل أن يفهم الإيرانيون أهمية الإشارة التي نرسلها من خلال الانضمام إلى المحادثات: عرفنا المخاطر المترتبة على المسألة النووية، وكنا مصممين على منع إيران من تطوير قنبلة وعلى تحميلها مسؤولية التزاماتها الدولية، ودعمنا بالكامل اقتراح مجموعة 5+1. كذلك شددت على أن أمام إيران فرصة نادرة نرجو أن تستغلها. دوّن جليلي ملاحظات دقيقة وابتسم قليلاً طوال كلامي، ورمقني هو وزملاؤه بالكثير من النظرات الجانبية، وخصوصاً أنهم شعروا أن الوجود الأميركي يوترهم، وانطلق جليلي بعد ذلك في كلمة دامت أربعين دقيقة تقريباً قدّم فيها فلسفة متقلبة عن ثقافة إيران وتاريخها وعن الدور البناء الذي أدته في المنطقة. بدا لي غامضاً على نحو غريب عندما أراد تفادي تقديم أجوبة مباشرة، وكانت هذه بالتأكيد إحدى تلك المناسبات، وذكر جليلي في مرحلة ما أنه ما زال محاضراً بدوام جزئي في جامعة طهران، فلم أحسد طلابه. ختم جليلي تعليقاته بتوزيع «ورقة غير رسمية» إيرانية، وحملت النسخة الإنكليزية خطأً العنوان «ورقة غير رسمية»، وتبيّن أن هذا وصف دقيق لمحتواها. تصفحها سولانا وسائر المشاركين معه بسرعة. وفي هذه اللحظة، تأفف زميلي الفرنسي بحذر وهمس «سخافة!»، مما رسم علامات الصدمة على وجه جليلي وبدد ملامح الجدية عن وجهي، ولكن من حسن حظي أن الكاميرات كانت قد أُطفئت منذ مدة. في ملاحظة سريعة وجهتُها إلى وزيرة الخارجية رايس في تلك الأمسية، ذكرت أن «خمس ساعات ونصف الساعة التي أمضيتها مع الإيرانيين اليوم شكّلت مذكراً قوياً بأننا لم نفوّت الكثير على الأرجح طوال هذه السنوات». رغم ذلك، بدا زملاؤنا في مجموعة 5+1 مسرورين بأن للولايات المتحدة اليوم حضوراً واضحاً وبأنها تشارك بفاعلية. وقد أعرب الروس والصينيون خصوصاً عن تقديرهم، فبغض النظر عن رد فعل الإيرانيين المخيب للآمال، استعدنا الآن مكانتنا الأعلى. لم يؤدِّ الانضمام إلى لقاء جنيف ولا مبادرة تمثيل المصالح إلى تقدّم ملموس لأن عهد (جورج) بوش الابن شارف على نهايته. انضممتُ إلى رايس في اجتماع سريع مع سيرغي لافروف في برلين في أواخر يوليو، وعرضت فكرة تمثيل المصالح، فوافق لافروف بطيب خاطر على نقل روسيا هذا الطرح إلى مستشار القائد الأعلى في مجال السياسة الخارجية علي أكبر ولايتي، ولكن اندلعت بعد ذلك الحرب في جورجيا وما عاد الروس يرغبون في تأدية دور الرسول، كذلك ما عدنا نحن نهتم لأمر الروس ولم تذهب هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك. لكننا مهدنا الدرب أمام مقاربة باراك أوباما الأكثر نشاطاً وابتكاراً إلى المعضلة النووية الإيرانية.

موقعا «ناتنز» و«آراك» النوويان السريان تحت أعين المجتمع الاستخباراتي الأميركي

خضعتُ لامتحان الدخول إلى الخدمات الخارجية في نوفمبر 1979 بعد بضعة أيام من الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران وبدء أزمة الرهائن التي أسقطت رئيساً، حيث فجّر إرهابيون مدعومون من إيران مرتين السفارة الأميركية في بيروت وقتلوا أكثر من مئتَي جندي في مشاة البحرية الأميركية في هجوم آخر هناك. كذلك كادت فضيحة إيران-كونترا أن تطيح برئيس آخر. دفع النجاح الكبير الذي حققته عملية عاصفة الصحراء في 1991 النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط إلى ذروته. صحيح أن إدارة كلينتون عملت جاهدة لاحتواء إيران، إلا أنها درست أيضاً في أواخر تسعينيات القرن الماضي احتمال التوصل إلى انفتاح مع حكومة (الرئيس الإيراني الأسبق محمد) خاتمي، لكنها لم تحقق تقدماً يُذكر. أتاح مشهد ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فرصة مماثلة، بيد أنها لم تُستغل، بل منحت عملية الإطاحة بألد أعداء إيران التاريخيين، التي قادتها الولايات المتحدة في كابول وبغداد وما نجم عنها من فوضى، فرصة استراتيجية لم تتردد إيران مطلقاً في اقتناصها. في أواخر 2001، بدأ المجتمع الاستخباراتي الأميركي يتتبع موقعين نوويين سريين في إيران: محطة لتخصيب اليورانيوم في ناتنز ومنشأة في آراك قد تنتج في النهاية مادة بلوتونيوم من الممكن استعمالها في تطوير أسلحة. بُنيت هذه الجهود، التي لم تصرّح بها إيران للوكالة الدولية للطاقة الذرية، على برنامج إيراني علني للطاقة النووية أنشئ خلال عهد الشاه، والمفارقة أن الولايات المتحدة كانت داعمه الأول. أدى الكشف عن هذين الموقعين السريين في صيف 2002 إلى مناورة دبلوماسية استمرت سنوات، حتى مرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارات طالب فيها إيران بتعليق أعمال التخصيب. لكن إيران مضت قدماً في عملها هذا بعناد، ونظراً لعدم استعداد إدارة بوش للتحاور مباشرة مع إيران، بدأ حلفاؤنا الأوروبيون مفاوضات مع الإيرانيين لم تحقق أي تقدّم يُذكر، بما أن إيران سعت إلى الحفاظ على برنامجها للتخصيب واحتمال تطويرها أسلحة نووية على الأمد الطويل وتفادي العقوبات الاقتصادية، انضمت روسيا والصين لاحقاً إلى دول الاتحاد الأوروبي الثلاث، وهكذا صارت هذه المجموعة تُعرف بمجموعة 5+1 (الدول الأعضاء الخمس الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فضلاً عن ألمانيا). صحيح أن هذا أغنى سوق المصطلحات الدبلوماسية الدولية المختصرة، لكنه لم يُحدث أي تبدّل في سلوك إيران، وبحلول السنة الأخيرة من عهد بوش عام 2008، كان الإيرانيون، رغم القلق الدولي المتنامي ورغم مواجهتهم جولات عدة من العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، نجحوا في تكديس نحو نصف الكمية اللازمة من اليورانيوم المنخفص التخصيب لمواصلة عملية التخصيب وإنتاج قنبلة واحدة. كانوا يشغّلون أكثر من أربعة آلاف جهاز طرد مركزي بدائي من نوع IR-1 في ناتنز ويحققون تقدماً متأرجحاً نحو نماذج أكثر تطوراً. وفي حين كانت إدارة بوش تتخبط وسط الأضرار الناجمة عن حرب العراق، بدأ عدد من كبار مسؤوليها يدركون أن إصرارها العنيد على عدم المشاركة مباشرةً في دبلوماسية مجموعة 5+1 مع إيران يؤدي إلى نتائج عكسية. في أواخر مايو 2008 بعثتُ إلى وزيرة الخارجية (السابقة كوندوليسا) رايس بمذكرة طويلة عنونتها «استعادة المبادرة الاستراتيجية بشأن إيران»، استهللتها بالتأكيد بأن «سياستنا تجاه إيران تنجرف بخطورة بين دبلوماسية مجموعة 5+1 العشوائية الراهنة وخيارات أكثر قوة مع كل ما يرافقها من تداعيات سلبية مهولة». كان عدم استعدادنا للتحاور مباشرةً مع طهران يكبدنا كلفة تفوق ما يواجهه الإيرانيون أنفسهم، فضلاً عن أنه حرمنا من نفوذ قيّم.

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,068,297

عدد الزوار: 6,751,179

المتواجدون الآن: 90