تحليل سياسي

مسيحيو لبنان بين صفير والراعي: أين كانوا... وأين أصبحوا?

تاريخ الإضافة الجمعة 7 تشرين الأول 2011 - 8:33 ص    عدد الزيارات 2253    التعليقات 0    القسم محلية

        


مقارنة متأنية بين مواقف البطريركين من نظام الأسد وسلاح »»حزب الله««
 
مسيحيو لبنان بين صفير والراعي: أين كانوا... وأين أصبحوا?
 
 

بيروت - "السياسة":
أثارت مواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي بشأن النظام السوري و"»حزب الله«" عاصفة من الردود والردود المضادة, وأحدثت شرخاً حاداً في الصف المسيحي اللبناني والمشرقي, بين مؤيد ومعارض. وكل ذلك يمكن وضعه في خانة الحسابات السياسية, إلا أن أهم ما طرحته هذه المواقف هو السؤال المحوري والجوهري عن الوجود المسيحي في المنطقة العربية, وطريقة الحفاظ عليه, بداية. ومن ثم دور المسيحيين المشرقيين في الربيع العربي والمتغيرات التاريخية الجارية في أنظمة الحكم القائمة.
في خضم نقاش مواقف الراعي أقيمت المقارنة بينه وبين سلفه الكاردينال نصر الله صفير. وهذه ليست مصادفة, أو مجرد وسيلة من وسائل السجال. وإنما فرضت المقارنة نفسها بين نهجين فكريين, أو خطين سياسيين, مختلفين في مقاربة السؤال الآنف الذكر عن وجود ودور المسيحيين, فقد بدا البطريرك الحالي مخالفا لكل تاريخ سلفه, وهو (الراعي) الذي عمل طوال عقود في ظل قيادة صفير, وكان من أشد المدافعين عن خياراته ومواقفه, وخصوصا في مقارعة الوصاية السورية على لبنان, ومقاومة السلاح غير الشرعي ل¯"»حزب الله«".

الوحدة أولاً
بدأ الكاردينال صفير ولايته البطريركية في العام 1986 رافعاً شعار الوحدة المسيحية في وقت كان المسيحيون اللبنانيون قد فقدوا زمام المبادرة نتيجة الحروب المتتالية, وأصبح وجودهم في الحكم صورياً, فلبنان كان منقسماً إلى أشلاء, بين مناطق يسيطر عليها الجيش السوري وحلفائه, ومناطق تحتلها إسرائيل, ومناطق مسيحية تتنازع عليها ثلاث قوى أساسية, رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل وحزب "الكتائب", "القوات اللبنانية" المنهكة بسلسلة انشقاقات وانقلابات داخلها, والجيش بقيادة العماد ميشال عون الذي حول المؤسسة العسكرية إلى طرف. عمل صفير منذ البداية على توحيد الصف المسيحي في مواجهة مخططات سورية لتفجيره, وفشلت دمشق في محاولات عدة إلى أن انتهت ولاية الرئيس الجميل في العام 1988, من دون انتخاب خلف له, وقد تصدى صفير مع فرقاء آخرين لسعي سورية فرض مرشح موال لها لرئاسة الجمهورية, الرئيس سليمان فرنجية ثم مخايل الضاهر. ولم يكن بالإمكان الحؤول دون حصول الفراغ الرئاسي الذي ملأه عون فارضاً نفسه رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية, إلا أنه حولها إلى دائمة ناسفاً كل إمكانية لإجراء الانتخابات الرئاسية. وعندما تصدى صفير له أرسل مناصريه لاقتحام بكركي وإهانة البطريرك, كما أنه شن حرباً عسكرية ضد القوات اللبنانية, مدشناً عصر التفكك للانهزام المسيحي. وقد حاول البطريرك صفير منع وقوع المجزرة المسيحية وهدد بإلقاء الحرم الكنسي على المتقاتلين, إلا أن عون أصر على زج الجيش في حرب الإلغاء.
كانت تلك الحرب المقدمة الأولى لإخضاع المسيحيين للوصاية السورية.
خرج عون من حربه ضد القوات ليزج الجيش في حرب أخرى, غير متكافئة ضد الجيش السوري, في ما سمي يومها حرب التحرير, ولما انهزم وهرب إلى السفارة الفرنسية, قدم الهدية الأثمن لدمشق بأن أدخل جيشها إلى قلب المناطق المسيحية. فكانت المقدمة الثانية والنهائية لإسقاط المسيحيين تحت حكم الوصاية السورية.

الطائف وعدم تطبيقه

أمنت موافقة البطريرك صفير على »اتفاق الطائف« عام 1989 التغطية المسيحية الضرورية لإنجاز تسوية جديدة بين اللبنانيين تنهي الحرب الأهلية وتضع المقدمات لانسحاب الجيش السوري من لبنان, ولنزع السلاح غير الشرعي, إلا أن النظام السوري استفاد من التقاء موقت مع الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية في معارضة الغزو "الصدامي" للكويت, ليطلق يده في لبنان مثبتا وصايته, وواضعا »اتفاق الطائف« على الرف. وعلى عادتها مارست الكنيسة المارونية مع البطريرك صفير دورها التاريخي في معارضة الوصاية, وعملت طوال عشر سنوات على التصدي لكل مظاهرها. وفي العام 2000 ومع الانسحاب الإسرائيلي من لبنان, أطلقت بكركي نداءها الأول, وطالبت بانسحاب الجيش السوري من لبنان لزوال مبررات وجوده. لقد كان هذا النداء البذرة الأولى ل¯"ثورة الأرز". وقد رعى البطريرك صفير لقاء "قرنة شهوان" لتوحيد القوى المسيحية ولترجمة مطلب رفع الوصاية السورية عن لبنان. وحده العماد ميشال عون انسحب من اللقاء ولكن ذلك لم يمنعه من التحول إلى أداة سياسية فعالة في مخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي, والتنديد باستمرار الاحتلال السوري رغم بعض عمليات إعادة الانتشار الشكلية. وقد خطى صفير خطوة إضافية لتعزيز الوحدة الوطنية فأنجز مصالحة الجبل فحاول النظام الأمني اللبناني السوري إحباطها سريعاً.

2005 عام مفصلي

مع تنامي المعارضة الوطنية اللبنانية بقيادة صفير للوصاية السورية, وتغير الموقف الدولي بإصدار القرار 1959, فقد النظام السوري صوابه, وبدأ مسلسل الاغتيالات وأبرز ضحاياه الرئيس الشهيد رفيق الحريري, وقد واكبت الكنيسة المارونية التحول الداخلي والخارجي, وكانت في صميم انتفاضة الاستقلال وثورة الأرز اللتين أجبرتا الجيش السوري على الاندحار من لبنان, وحشرتا حلفاءه في الزاوية. لم يكن في أي من الطوائف اللبنانية من يؤيد بقاء الجيش السوري, أو يرفض قيام الدولة القوية القادرة بمؤسساتها السياسية والأمنية. ولكن »حزب الله« الذي استشعر خطر زواله تولى منذ لحظة الانسحاب السوري, قيادة تحالف "»8 آذار«" ضد الكنيسة المارونية وكل قوى "ثورة الأرز". وكان ينقصه الطرف المسيحي فشكل حضور عون من منفاه الفرنسي بصفقة سورية رتبها الرئيس إميل لحود, ليسد هذا الفراغ فوقع معه تفاهم  فبراير 2006, متجاهلا »اتفاق الطائف« وتوجه الكنيسة المارونية وقوى "14 آذار" ومشروعها لبناء الدولة.

وصاية السلاح

جاء دور "»حزب الله«" بعد النظام السوري ليضع »اتفاق الطائف« ومشروع الدولة على الرف. وكانت أولى المظاهر اختراق الساحة المسيحية من خلال التحالف مع عون, وبعد أن تم ذلك شن "»حزب الله«" حرب عام 2006 وعينه على أهداف داخلية ظهرت لاحقاً, فتصدى صفير مرة أخرى, من خلال بيان-نداء جديد للمطارنة الموارنة انتقد تفرد طرف واحد بقرار الحرب والسلم في لبنان. ثم وقف صفير إلى جانب حكومة الاستقلال الثاني برئاسة فؤاد السنيورة, ودعم خيار المحكمة الدولية كوسيلة لمنع الاغتيالات السياسية. احتل "»حزب الله«" وسط بيروت وأثار موجة من الإضرابات في العامين 2007 و2008, وعطل مع حليفه عون الانتخابات الرئاسية حتى تم »اتفاق الدوحة« فبارك صفير انتخاب الرئيس ميشال سليمان, وحذر بعد ذلك من مخاطر فوز فريق »8 آذار« بالانتخابات النيابية في العام 2009, وكان لموقفه الصدى الطيب, والفعل المباشر لهزيمة هذا الفريق الذي توسل الانتخابات للهيمنة على البلد إلا أنه فشل.
بعد ذلك لم يوفر صفير وسيلة للتنديد بتمادي هيمنة السلاح على الحياة السياسية, وتصدى قدر الإمكان لشراء أراضي المسيحيين عبر وسطاء لحساب »حزب الله« في محاولة لمد المربعات الأمنية إلى مختلف المناطق اللبنانية. وفي عز الهجوم على المحكمة الدولية وخصوصا مع انطلاق عملها فعليا, حافظ البطريرك صفير على دعوته لتطبيق العدالة ومحاكمة قتلة شهداء "ثورة الأرز".

خروج مشرف

ترك صفير سدة البطريركية طوعاً تاركاً خلفه ربع قرن من المقاومة المدنية الحضارية لسلطة الوصاية السورية أولاً, إذ ظل متمسكاً بموقفه الرافض لأي علاقة مع النظام السوري طالما بقي احتلاله للبنان, أو تدخله المباشر في شؤونه. وناهض بالكلمة والموقف وصاية السلاح غير الشرعي واستئثاره بالحياة السياسية اللبنانية. وقد جرت عليه مواقفه حملات إعلامية شعواء وصلت حد فبركة أخبار عن أن الفاتيكان دفعه للاستقالة.
إن المحصلة الأهم لولاية صفير البطريركية تجيب بشكل غير مباشر على المبررات التي أعطاها البعض لمواقف البطريرك الراعي بشأن سورية و"»حزب الله«".
فعلى المستوى الداخلي انتقل الوضع المسيحي من مرحلة التقهقر والتهميش إلى مرحلة الشراكة الكاملة في الحكم والقرار السياسي, وتعززت علاقاتهم مع الطوائف الأخرى مثل السنة والدروز, وحالت الهيمنة المسلحة على الطائفة الشيعية دون نسج العلاقات الطبيعية معه. واستطاع المسيحيون بفضل سياسة صفير من بناء شبكة أمان وطنية لهم ولكل اللبنانيين. ولولا حالة عون الشاذة الخارقة للإجماع المسيحي لكان الوضع أفضل. إلا أن هذه الحالة تتراجع داخل الساحة المسيحية ويكفي النظر إلى نتائج دورتي الانتخابات في 2005 و2009 لمعرفة حجم هذا التراجع.
وعلى المستوى الخارجي استطاع المسيحيون بقيادة صفير موازنة النفوذ السوري في لبنان الذي جر عليهم الويلات طوال عقود, وقد أثمرت مقارعتهم للوصاية السورية عرفاناً من العالم أجمع, فكانت القرارات الدولية, وخصوصاً القرار 1559 خير دليل على انخراط المجتمع الدولي في حماية لبنان وتخليصه من سلطة الوصاية.

بدعة حماية الأقليات

لم يرفع صفير يوماً شعار حماية الأقليات عندما خاض معاركه ضد الوصاية السورية والسلاح غير الشرعي, ولو فعل ذلك, أو لو استجدى الحماية لطائفته, لكان النظام السوري أول المتبرعين بعرض الحماية مقابل أثمان سياسية, أقلها السكوت عن احتلاله للبنان. لقد عمل صفير في الإطار الوطني العام, ومارس مقاومته بالتعاضد مع كل اللبنانيين من أجل كل لبنان, بعد أن نجح في مصالحة الطوائف الإسلامية وخلص الجميع من رواسب الحرب الأهلية. وفي الوقت نفسه لم يكن محسوبا على أي طرف سياسي, ويخطئ من يظن أنه بطريرك "14 آذار", وموقفه الرافض لانتخاب رئيس للجمهورية بالنصف زائداً واحداً في العام 2007, يؤكد استقلاليته من ناحية, ويثبت أنه حريص على الوحدة الوطنية, بوصفها أفضل حماية لكل اللبنانيين.

الإرشاد الرسولي

يحلو للبعض في تبريرهم لمواقف الراعي المخالفة لأدبيات بكركي القول إن هذه المواقف هي ترجمة للإرشاد الرسولي حول لبنان الذي دعا المسيحيين في العام 2010 إلى التفاعل مع محيطهم المشرقي الطبيعي. وهذا الكلام مردود من أساسه لأن المحيط المشرقي المقصود في الإرشاد ليس النظام الديكتاتوري السوري المتهاوي وإنما هم شعوب هذه المنطقة وفي مقدمهم الشعب السوري, الذي عانى مسيحيوه كما مسلموه من ظلم هذا النظام.
أما الحديث عن خوف مسيحي من أن تؤدي الثورة السورية إلى تفتيت الجغرافيا في ظل عدم وجود أي مشروع أو بديل إلا التفتيت نفسه, أو وصول جماعات أصولية دينية متطرفة إلى الحكم, فتناقضه وقائع الثورة نفسها. إذ أن الثورة ضد نظام الأسد تشمل جميع المحافظات وتشارك فيها أطياف الشعب السوري كافة, وهي وليست حكراً على مناطق نفوذ الإخوان المسلمين مثلا. ما يدل على وجود إرادة جامعة لدى كل فئات وشرائح الشعب السوري على إسقاط النظام القائم وإحلال نظام ديمقراطي تعددي. وقد عكست المؤتمرات المتتالية للمعارضة السورية حرصها على تمثيل جميع مكونات الشعب السوري.
إن التعاطي مع المتغير السوري بدافع خوف أقلوي أو انطلاقا من حسابات مصلحية طائفية, هو خطأ ستراتيجي, عدا عن أن الخوف من الآخر ومن المتغيرات هو أسوأ أنواع المستشارين. فالبطريرك الراعي يحاول إظهار المسيحيين وكأنهم أقلية وتجب حمايتهم, في حين أنهم أهل هذه المنطقة الأصليون. والمسيحية نشأت في هذه المنطقة. ويخطى من يتحدث عن أقليات وكأثريات, لأن المشرق العربي هو موزاييك متنوع من الأقليات والأكثريات في آن. ولا يمكن أن لشعوب هذه المنطقة العيش بسلام إلا باكتمال المصالح بين مكوناتها, في إطار نظام ديمقراطي, وليس بمصادرتها من قبل أنظمة دكتاتورية قمعية.
يتحدث منظرو حماية الأقليات عن نموذج العراق حيث هجر المسيحيون في ظل الاحتلال الأميركي لهذا البلد, ولكنهم يتناسون أن دخول تنظيم القاعدة عبر البوابة الإيرانية والسورية إلى العراق ونشوء جماعات متطرفة من طوائف مختلفة, بدعم وتمويل إيراني سوري, كانت الأسباب المباشرة لاندلاع العنف الطائفي والمذهبي الذي دفع بملايين العراقيين إلى ترك البلد, ومنهم المسيحيون.
كما يتناسى هؤلاء أن النظام السوري في مرحلة أولى, ومن ثم حليفه الإيراني في مرحلة ثانية, هما السبب في محنة لبنان (ساهمت إسرائيل فيها أيضاً), التي أدت في ما أدت إلى هجرة واسعة للمسيحيين منه. فهل يمكن للمسيحيين الركون مجدداً إلى نظام الأسد الذي تلاعب بالموزاييك اللبناني, وأحدث فيه شروخاً حادة, احتاج اللبنانيون إلى صولات وجولات لترميمها, وأبرز محطاتهم


المصدر: جريدة السياسة الكويتية

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,872,239

عدد الزوار: 6,969,485

المتواجدون الآن: 114