عوامل داخلية وخارجية قد تحدّ من وصول الاستثمارات إلى لبنان
علي ماجد
عد صدور قانون تشجيع الاستثمارات عام 2003 ازداد تدفق الاستثمارات العربية الى لبنان، وارتفعت من 1050 مليون دولار في عام 2004 الى 3.5 بليون دولار في عام 2008. وفي فترة 2004 - 2008 بلغت قيمتها 11.965 بليون دولار أي بمعدل سنوي قدره 2.393 بليون دولار. وازدادت هذه الاستثمارات عام 2007 بنسبة 47.5 في المئة مقارنة بعام 2006 وتوزعت على قطاعات العقارات والتجارة والخدمات، وتملك السعودية نحو 69.5 في المئة منها.
وتقدر تحويلات المغتربين اللبنانيين الى لبنان بنحو 6 بليونات دولار سنوياً، وارتفعت عام 2008 لتحويل هؤلاء مدخراتهم ايضاً لخوفهم من فقدان وظائفهم، خصوصاً العاملين منهم في منطقة الخليج التي تركت الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية بصماتها عليها. لذلك وصل حجم الرساميل الوافدة الى لبنان خلال عام 2008 وحتى نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الى 13.1 بليون دولار، محققاً زيادة قدرها 60 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2007. والوجهة الأساسية لاستثمارات المغتربين اللبنانيين تتمثل بالقطاع العقاري لشراء أراض وشقق سكنية، إضافة الى نفقات أخرى عدة. الى ذلك، قدمت مؤسسة تشجيع الاستثمارات «أيدال» خدمات وحوافز منذ عام 2003 بقيمة 1.168 بليون دولار موزعة على 32 مشروعاً أهمها مشروعات سياحية بلغت نسبتها 78.5 في المئة من المجموع ومشروعات صناعية بلغت نسبتها 9.7 في المئة.
وبما ان لبنان بقي بمنأى عن تأثيرات الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية، أصبح ملاذاً آمناً للاستثمارات على رغم ضيق سوقه. وهو يؤمن فرصاً للاستثمار مربحة في قطاعات عدة، يأتي في مقدمها القطاع العقاري. وتؤكد على ذلك الفورة العقارية التي حصلت عام 2008 وتجربة السنوات الماضية. والواقع هو ان مساحة لبنان محدودة، لذلك فالطلب يفوق العرض ما يؤدي الى ارتفاع اسعار العقارات المبنية وغير المبنية. وفي عام 2008 وحتى نهاية شهر آب (اغسطس) زاد هذا الارتفاع بنسبة وصلت الى 50 في المئة. وفي العاصمة بيروت لم يبق اكثر من 100 عقار صالحة للبناء. فالمطورون العقاريون والمستثمرون يتجهون حالياً للاستثمار في مناطق خارج بيروت، في محيطها وفي المناطق السياحية. والحقيقة، أن لبنان يشهد حالياً حركة عمرانية لافتة في مختلف مناطقه ومدنه وبلداته.
وما يشجع على الاستثمار العقاري هو تدني مستوى أسعار العقارات نسبياً مقارنة بمستواها في البلدان المجاورة للبنان. وذلك مرتبط بعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي شهده هذا البلد منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) عام 2005. وعلى رغم جمود الأسعار حالياً، إلا انها ازدادت في العاصمة بيروت عام 2008 بنسب مرتفعة وفي المناطق الأخرى بنسبة تختلف من منطقة الى أخرى وبحسب الموقع في المنطقة نفسها. ويلجأ المستثمرون احياناً الى شراء عقارات مبنية قديمة، خصوصاً في مدينة بيروت وهدمها لتشييد مبان ضخمة حديثة الطراز مكانها. وشهدت مناطق الجبل السياحية شراء عقارات كثيرة بواسطة المستثمرين العرب الخليجيين وبلغت قيمة الصفقات العقارية خلال عام 2008 وحتى آخر كانون الأول (سبتمبر) منه 4.5 بليون دولار. وعموماً يمكن القول إن أسعار العقارات في لبنان ستتجه مستقبلاً نحو الارتفاع، لكن ذلك مرتبط بمدى استقرار أوضاعه السياسية والأمنية.
وبعد النجاح المدهش الذي حققه القطاع السياحي بكل مكوناته خلال عام 2008، وتحديداً بعد اتفاق الدوحة، برهن على انه يمتلك طاقات كامنة يمكن إطلاقها بواسطة الاستثمارات. فمساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي بلغت عشية الحرب اللبنانية التي بدأت عام 1975 نحو 22 في المئة، بينما هي الآن تقل عن 7 في المئة. ومعدل الإيرادات من سعر الغرفة البالغ 164 دولاراً في فنادق خمس نجوم يصل الى 50 في المئة تقريباً. ولبنان يحتاج فعلياً الى آلاف الغرف الفندقية الإضافية إذا ما استمر النشاط السياحي في مسيرته التصاعدية. وتوجد حاجة ماسة لإقامة فنادق بثلاث وأربع نجوم، ومؤسسات سياحية أخرى كالمطاعم والمقاهي والملاهي وغيرها. والاستثمارات السياحية والعقارية والتجارية تتكامل في ما بينها لتخلق نمواً وتطوراً مهمين يحتاج إليهما لبنان منذ فترة بعيدة. وإذا كان معدل الإشغال الفندقي تعدى نسبة 60 في المئة، إلا ان الطلب على الغرف الفندقية تجاوز في بعض الفنادق نسبة 100 في المئة، خصوصاً في موسم الأعياد.
ويعتبر القطاع المصرفي اللبناني مجالاً مهماً للاستثمار نظراً لقوته ومتانته وعدم تأثره بالأزمة المالية - الاقتصادية العالمية، ويعود ذلك الى عدم تورطه بالاستثمار في أدوات مالية أجنبية أو مشتقاتها، وإلى تقيده بقرارات مصرف لبنان ومنها حصر تسليف الصفقات العقارية بنسبة لا تتجاوز 60 في المئة من قيمة الصفقة، فحمى بذلك نفسه والقطاع العقاري ايضاً من الوقوع في براثن الأزمة.
وعناصر قوة القطاع المصرفي اللبناني كثيرة منها نسبة ملاءته البالغة 12 في المئة والتي تتجاوز حتى معايير «بازل - 2» المحددة نسبة الملاءة بنحو 8 في المئة. وبعض المصارف تجاوزت ملاءتها نسبة 20 في المئة. إلى ذلك فقد واصل هذا القطاع نموه المضطرد بمختلف أنشطته، فالموازنة المجمعة للمصارف وصلت عام 2008 وحتى نهاية تشرين الثاني 91.758 بليون دولار محققة نمواً بلغت نسبته 11.6 في المئة، بينما حققت أرباحاً قدرها 1.28 مليون دولار وبزيادة نسبتها 37.74 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2007. وبعض المصارف حققت أرباحاً تجاوزت نسبة 100 في المئة.
ويدعم الجهاز المصرفي اللبناني بواسطة تسليفاته التي تزداد ايضاً من عام الى آخر القطاعين الخاص والعام والدين العام والمالية العامة للدولة. فالقروض للقطاعات الاقتصادية بلغت عام 2008 وحتى نهاية شهر تشرين الثاني 24.687 بليون دولار، وللقطاع العام 25.138 بليون دولاراً وبزيادة نسبتها 20.9 و16.8 في المئة على التوالي مقارنة بالفترة نفسها من عام 2007. وضخت المصارف بواسطة التسليفات في السوق العقارية نحو 3.74 بليون دولار خلال عام 2008 وحتى نهاية شهر ايلول (سبتمبر). والسيولة العالية للمصارف تشكل مرتكزاً للشعور بالثقة والأمان في كافة القطاعات الاقتصادية والنقدية والمالية.
والاستثمار في القطاع المصرفي اللبناني يمكن ان يتخذ اشكالاً عدة منها: شراء أسهم المصارف أوالمشاركة في رأسمالها أو شراؤها بالكامل. ووصول احتياطيات المصرف المركزي الى أكثر من 20.3 بليون دولار تجعله قادراً على التدخل في السوق النقدية لحماية سعر صرف الليرة اللبنانية ودعم المصارف عند الضرورة. وكل ذلك يقوي الثقة بالقطاع المصرفي اللبناني ويدفع الى الاستثمار فيه، خصوصاً أن المصرف المركزي بالتعاون مع جمعية المصارف يسعى الى تكوين تكتلات مصرفية ضخمة في لبنان بواسطة عمليات دمج مدروسة جيداً.
ويمكن الاستثمار في أسهم شركة «سوليدير» على رغم تراجع أسعار الأسهم المتداولة في بورصة بيروت بنسبة راوحت بين 20 و29 في المئة خلال عام 2008، وتبقى أقل من نسبة تراجع الأسعار في بورصات المنطقة المحيطة بلبنان. والمشكلة الأساسية تتلخص بتأثر بورصة بيروت بغيرها من بورصات المنطقة، خصوصاً الخليجية منها التي تعاني آثار الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية، وبمدى استقرار الأوضاع السياسية والأمنية في لبنان والمنطقة. علماً أن أسعار الأسهم في بورصة بيروت لا تعكس فعلياً القيمة الحقيقية لموجودات «سوليدير» أو المصارف أو غيرها التي تفوق كثيراً قيمة هذه الأسهم. وما يؤكد ضعف بورصة بيروت قيمة التداولات فيها خلال عام 2008 التي لم تتعد حدود 1710.42 مليون دولار وبزيادة عن عام 2007 بلغت نسبتها 72.1 في المئة. وقد توزعت هذه القيمة على الشكل التالي: التطوير والإعمار (سوليدير) 72.5 في المئة، المصارف 26.8 في المئة وغيرها.
ويرفع من مستوى الثقة بالاستثمار في أسهم «سوليدير» امتلاكها أهم منطقة في لبنان وهي وسط بيروت التجاري، إضافة الى ان هوامش المخاطر المالية فيها ما زالت ضئيلة وتحت السيطرة، وهي قادرة على الاستفادة من ارتفاع اسعار العقارات بصورة عامة.
وتملك شركة «سوليدير» 1.9 مليون متر مربع من الأراضي و4.7 مليون متر من البناء، وهي قادرة على جني أرباح كبيرة إذا قامت ببيع 1.9 مليون متر مربع منها على مراحل. وقد يزداد دخلها من تأجير العقارات بنسبة 12 في المئة في عام 2009 مقارنة بعام 2008. وحصص المساهمين مرشحة للارتفاع بنسبة 20 في المئة حتى نهاية 2010 لازدياد دخلها من استثماراتها الخارجية، واكتمال إنشاء الأسواق الجنوبية والشمالية حتى أواخر عام 2011 قد يرفع دخل الشركة من الإيجارات الى 45 مليون دولار. وباعت أخيراً مساحات غير مبنية بأسعار مرتفعة يقدرها بعضهم بنحو خمسة آلاف دولار للمتر المربع الواحد، بينما كانت أسعار الواجهة البحرية وصلت الى 4500 دولاراً. ويمكن تحقيق هدف الوصول الى 26 دولاراً للسهم الواحد الذي تملكه «سوليدير»، على رغم تراجعه الى 14 دولاراً حالياً. وما دامت إدارة «سوليدير» حريصة على ضبط النفقات وتنجز مشاريعها بنجاح فإنها ستحقق فوائض مالية، مع انها تستطيع الاقتراض من المصارف عند الضرورة.
ويملك الاستثمار ايضاً آفاقاً جيدة في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأدوية والتأمين.
وبإمكان لبنان ان يصبح مركزاً إقليمياً للتكنولوجيا، فلديه قوى عاملة ذات مستوى علمي مرتفع وتمتلك عدة لغات، وشركات إعلانية ذات طابع عالمي، ووسائل إعلام بلغات عدة، وبوابة على شبكة الإنــــترنت العالمية. وخطة الحكومة لتحسين وضع البنية التحتية لقطاع المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات أو خصخصته يؤمن فرصاً جيدة للاستثمار.
فصناعة الأدوية ضعيفة في لبنان وبحاجة الى تطوير وأرباحها مرتفعة ومضمونة. ويعتبر لبنان في طليعة البلدان المستوردة للأدوية في الشرق الأوسط حيث تشكل الأدوية المستوردة بين 92 و95 في المئة من مجموع الاستهلاك. ويجني سوق الأدوية نحو 400 مليون دولار سنوياً من مبيعات الأدوية بالتجزئة ويعتبر قطاع التأمين مجالاً مهماً للاستثمار، فسوق التأمين تتميز بالانفتاح والليبرالية وهي تنتمي الى القطاع الخاص. وينتظر ان تنمو الحاجة الى بوالص التأمين على الحياة والصحة وقطاع البناء جراء مشاريع الإعمار العديدة. ويؤمن القطاع التجاري ايضاً فرصاً جيدة للاستثمار، وذلك بالاعتماد على شركات وسيطة أو موزعة، وعلى التسويق المباشر بواسطة الإعلانات التي ينفق عليها اكثر من 100 مليون دولار سنوياً. ويمكن التركيز على مجالات الوجبات السريعة والألبسة التي يزداد الطلب العام عليها.
ومن أهم العوامل التي تساعد لبنان على أن يملك مناخاً ملائماً للاستثمارات: الليبرالية الحرة، قلة القيود على تحركات الرساميل عبر الحدود، منح المستثمرين الأجانب حق إدارة المؤسسات الاقتصادية وتملك الأصول الخاصة من دون أي قيود وعدم إلزامهم بالاستثمار أو المساهمة بمشاريع محددة وندرة تدخل الحكومة في قطاع التجارة الخارجية. إضافة الى نواح ايجابية أخرى منها: رقابة وزارة الاقتصاد على الأسعار والمستوى الجيد لحماية المستهلك، وجود جهاز مصرفي قوي وفاعل قادر على تأمين التمويل الضروري، المستوى المرتفع لدولرة الودائع والتسليفات، وعدم فرض أي قيود على تحويل العملات أو ضوابط على عمليات القطاع تؤثر سلباً على التجارة. اضافة الى ان لبنان وقع في عام 2006 على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ويستعد للانضمام الى منظمة التجارة العالمية عام 2009. وفي المقابل توجد عوامل تسيء الى لبنان كبلد ملائم للاستثمار اهمها: البيروقراطية، البيئة التشغيلية غير المستقلة، الفساد السائد في مجال العقود الحكومية والضرائب وتسجيل العقارات، وعدم توقيع لبنان على اتفاق منظمة التعاون والتنمية لمكافحة الفساد. ومن العوائق الأخرى امام الاستثمارات: قرارات الترخيص العشوائية، المحاصصة والفيزا، الإجراءات الجمركية المعقدة والقوانين القديمة، عدم فاعلية النظام القضائي، ارتفاع مستوى الضرائب والرسوم وتكاليف الكهرباء والاتصالات، الاختلاف في تفسير القوانين، وضعف حماية الملكية الفكرية.
وتدفق الاستثمارات الأجنبية والعربية الى لبنان رهن بقدرة الحكومة على إزالة العوائق الموجودة أمامها، وبمستوى الاستقرار السياسي والأمني في لبنان الذي قد يتأثر سلباً بالانتخابات النيابية المقبلة في السابع من حزيران (يونيو) من هذا العام وبنتائجها على الصعيدين البرلماني والحكومي والاجتماعي.