العلاقات التركية - الأميركية على مفترق طرق

تاريخ الإضافة الأحد 13 حزيران 2010 - 6:26 ص    عدد الزيارات 3463    التعليقات 0    القسم دولية

        


العلاقات التركية - الأميركية على مفترق طرق
وخسائر الطرفين ستضعهما أمام خيارات صعبة

بعد عقود من العلاقات السياسية والشركة الاستراتيجية الوثيقة بين أنقرة وواشنطن، وصلت العلاقات التركية-الاميركية الى مفترق طرق، حيث يتساءل المسؤولون والمحللون في واشنطن عما اذا كانت السياسة التركية الجديدة الهادفة الى الاضطلاع بدور اقليمي ودولي أكبر ومستقل عن الغرب ستؤدي الى توترات جديدة مع واشنطن، تدفع بتركيا الى التخلي ولو جزئيا عن توجهها الغربي الذي ميزها منذ ولادة الجمهورية التركية في 1923  والتراجع عن المفهوم المتشدد للعلمنة الذي فرضه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال آتاتورك واعتماد سياسة "اسلامية" أكثر.
رد الفعل التركي الغاضب على الهجوم الاسرائيلي على سفن "اسطول الحرية" والذي ادى الى قتل 9 مواطنين اتراك مدنيين، ابرز الى العلن وبشكل نافر أكثر من أي وقت مضى هذه التساؤلات في واشنطن، والتي صاحبتها مشاعر انزعاج لا بل غضب لدى بعض المسؤولين الكبار من جراء تصويت تركيا ضد قرار العقوبات على ايران الذي اقره مجلس الامن  الاربعاء الماضي.
فمنذ وصول حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الاسلامية الى السلطة في 2002 وتركيا تعيد بشكل حثيث ترتيب علاقاتها مع جيرانها على اسس جديدة تهدف الى حل كل الخلافات السياسية القديمة معها، والسعي الى القيام بالوساطات الاقليمية، مستخدمة في ذلك ثقلها الاقتصادي الجديد، وهي اليوم تمثل الاقتصاد السادس في اوروبا، والاقتصاد السابع عشر بين مجموعة العشرين، في بحثها المستمر عن اسواق جديدة لصادراتها. وزادت صادرات تركيا لجيرانها عشرين مرة بين عامي 1991 و2008. وفي هذا السياق طورت انقرة علاقاتها الاقتصادية مع طهران وسعت الى التوسط بينها وبين واشنطن، وهي جهود ادت الى اعلان طهران الثلاثي بين ايران وتركيا والبرازيل لحل أزمة البرنامج النووي الايراني. وسعت تركيا ايضا الى تحسين علاقاتها مع خصومها التاريخيين في المنطقة، من اليونان الى ارمينيا، حيث توصلت الى اتفاق مهم - وبدعم قوي من واشنطن - مع يريفان اعتبر خطوة مهمة في اتجاه التطبيع الكامل بين البلدين.
هذا التوجه الذي سماه البعض "العثمانية الجديدة"، في اشارة الى عودة تركيا الى الممتلكات السابقة للامبراطورية العثمانية في شرق المتوسط والقوقاز، ادى ايضا الى وساطة تركية طموحة بين سوريا واسرائيل، وصلت الى طريق مسدود بعد الاجتياح الاسرائيلي الدموي لغزة في شتاء 2008 و2009، وما اعتبره رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان موقفا مخادعا لحكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت. هذه السياسة التركية الجديدة، والتي شملت الدفاع عن حركة المقاومة الاسلامية "حماس" ومطالبة اسرائيل بالتفاوض معها، ورفض اعتبارها و"حزب الله" تنظيمات ارهابية، قوبلت بدرجات متفاوتة من التفهم والانزعاج في واشنطن.
ويرى العديد من المحللين ان  "عودة" تركيا الى الشرق الاوسط بهذا الشكل القوي بعد عقود طويلة امضتها وهي تدق ابواب اوروبا لكي تقابل في كل مرة بصدّ من قادة الاتحاد الاوروبي وخصوصا في باريس وبرلين، هي أمر طبيعي، لاسيما وان المنطقة المحيطة بها ازدادت اضطرابا في اعقاب الغزو الاميركي للعراق وحروب اسرائيل ضد لبنان وغزة، وتفاقم الخلاف بين طهران والغرب. المفارقة النافرة هي ان ديموقراطية تركيا واقتصادها الحيوي المبني على اقتصاد السوق وتشجيع الصادرات والاستثمارات الدولية وعدم حاجة انقرة الى مساعدات اميركية، كلها عوامل ساهمت بشكل غير مباشر او مقصود ربما في ايجاد المشاكل بين انقرة وواشنطن. وكان أبرز مثال على ذلك تصويت البرلمان التركي ضد السماح للقوات الاميركية باستخدام الاراضي التركية وفتح جبهة  شمالية لغزو العراق في 2003، وهو تصويت شمل اعضاء من حزب اردوغان. وقاعدة حزب العدالة والتنمية الواسعة والتي تضم التجار واصحاب المصالح الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة الحجم والحرفيين، وبعض الشرائح الليبرالية المهتمة بتطوير الاقتصاد التركي، راضية الى حد كبير عن سياسات اردوغان الخارجية، التي رسمها "منظر" الحزب وزير الخارجية أحمد داود أوغلو.

 

عمر تاسبينار

ويرى بعض المعلقين، ومن بينهم عمر تاسبينار  الباحث في مؤسسة بروكينغز والمؤلف لعدد من الكتب والدراسات عن علاقات تركيا بالغرب، انه من الخطأ تحليل السياسة الخارجية التركية الجديدة انطلاقا من مقولة الخلاف بين مفهوم "العلمانية" و"الاسلام"، او القول ان اختلاف تركيا مع بعض السياسات الغربية يعني انها ستلف نفسها بعباءة اسلامية، وهو موقف لا يعبر عنه بعض السياسيين والمعلقين في واشنطن والعواصم الاوروبية فقط، بل ايضا قادة الاحزاب العلمانية في تركيا وفي اوساط الجيش والبيروقراطية "الكمالية" التي لا تزال متجذرة في مؤسسات الدولة.
ويقول تاسبينار في حوار مع "النهار": "هذه لحظة تركيا الديموقراطية، لحظة احياء العظمة العثمانية، هذه عملية احياء للقومية التركية وليست صحوة اسلامية، هذه حملة تركية للاضطلاع بدور مستقل أكثر، وهي ليست قطيعة مع الغرب". ومع ان تاسبينار لا يقلل اهمية نمو النزعة الاسلامية في تركيا وتأثيرها على السياسة الخارجية، الا انه يقول ان احباط تركيا المتنامي تجاه سياسات اميركا واوروبا سيؤدي الى ما يسميه "ديغولية تركية" ستفضي الى سياسة تركية اكثر ثقة من السابق، مستقلة، ولا تتردد في تحدي الغرب او في استخدام ثقلها الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي في منطقتها الحيوية. هذه السياسة التركية الجديدة قد تؤدي الى ابتعاد تركيا عن حلف حلف شمال الاطلسي كما فعل الرئيس الفرنسي شارل ديغول في الستينات في القرن الماضي وربما اللجوء الى قوة ردع تركية نووية، يصاحبها تحسين ملحوظ للعلاقات بين تركيا وروسيا والصين والهند والبرازيل وايران حيث ستجد تركيا في هذه الدول ليس فقط اسواقا لمنتجاتها بل صداقات سياسية تعوض علاقاتها التقليدية مع الغرب.
ويرى تاسبينار، على رغم الصد الاوروبي المستمر لتركيا، أن أكثرية الاتراك لا يريدون الطلاق مع الغرب، ولكنهم يشعرون بالاحباط  لان العقبات تزداد في وجه دخولهم الاتحاد الاوروبي، ولانهم يتخوفون من التعاطف الغربي مع تطلعات الاقلية الكردية في تركيا، واصرار العديد في الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة على اعتبار المجازر التي تعرض لها الارمن في اعقاب الحرب العالمية الاولى وعشرينات القرن الماضي بمثابة حرب ابادة. هذا القلق التركي يطرح التساؤلات عن جدوى استمرار تركيا في توجهها "الغربي" التقليدي. ويشير تاسبينار الى ان مشاعر الاحباط التركية هذه "موجودة في اوساط المعسكرين: العلماني والاسلامي، وصارت جزءا عضويا من الخطاب السياسي التركي في السنوات الاخيرة".
وقالت مصادر اميركية مطلعة لـ "النهار" ان التصويت التركي ضد قرار العقوبات اثار غضب بعض المسؤولين الاميركيين في مجلس الامن القومي، بمن فيهم المستشار جيمس جونز، وفي وزارة الخارجية ولاسيما في القسم الاوروبي الذي يديره مساعد وزيرة الخارجية فيليب غوردون، الذي عمل مع مندوبة واشنطن في مجلس الامن سوزان رايس على اقناع تركيا دون جدوى كي لا تصوت على القرار. وللتدليل على خطورة هذا التصويت  قالت المصادر ان بعض المسؤولين الاميركيين يعتقدون ان تصويت تركيا في مجلس الامن ضد العقوبات هو أسوأ من قرار انقرة في 2003 بعدم السماح للقوات الاميركية بفتح جبهة شمالية لغزو العراق. بعض المسؤولين الاميركيين يقولون ان تركيا مشت مسافة طويلة في اتجاه التحول الى "دولة اسلامية" وانه من الصعب اعادتها الآن الى المعسكر الغربي.
ويرى بعض المراقبين الاميركيين والاتراك ومن بينهم تاسبينار، ان الازمة التركية - الاسرائيلية الاخيرة، الى ما يمكن وصفه بانهيار الاتفاق التركي - الارميني الذي لم تطبق انقرة بعض بنوده الرئيسية ومنها فتح الحدود الارمينية - التركية، وهو اتفاق عَمِلَ طويلا من اجل انجاحه فيليب غوردون، لا يثير غضب المسؤولين الاميركيين فحسب، بل انه سيساهم في تنسيق المواقف بين قوى الضغط الموالية لاسرائيل، واللوبي الارمني في الكونغرس من اجل اعادة طرح قرار "ابادة الارمن" في الكونغرس ربما في ايلول او تشرين الاول مجددا  أي قبل الانتخابات النصفية في الثالث من تشرين الثاني المقبل لضمان تصويت اكبر عدد من المشرعين الاميركيين عليه. ولا يتوقع تاسبينار ان تحاول الحكومة الاميركية هذه المرة، كما تفعل عادة، اقناع الكونغرس بعدم التصويت على مثل هذا القرار. ويعتقد انه في حال اقر الكونغرس مثل هذا القرار (الذي اقرته اكثر من مئة دولة في العالم) فان حكومة اردوغان قد ترد بشكل عنيف ولن تكتفي بسحب سفيرها من واشنطن كما فعلت موقتا حين صوتت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب على مثل هذا القرار في اذار الماضي، بل ربما اغلقت قاعدة انجيرليك الاميركية في شرق تركيا، وهي قاعدة حيوية للغاية لإمداد القوات الاميركية في العراق، او على الاقل فرض قيود جديدة على استخدامها.
وكان وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس قد انتقد اللجنة على موقفها ورأى انه قرار خاطئ. وستكون مواقف اردوغان مثل مواقف السياسيين الاميركيين مرتبطة بالانتخابات النيابية التي ستشهدها تركيا ايضا في تشرين الثاني المقبل. وفي حال  فرضت انقرة قيودا جديدة على استخدام قاعدة انجيرليك فان واشنطن قد ترد بوقف تقديم المعلومات الاستخباراتية للجيش التركي حول "حزب العمال الكردستاني" في تركيا، الامر الذي سيزيد غضب الضباط الاتراك من حكومتهم. كما ان تزويد اميركا تركيا الاسلحة المتطورة قد يصير اكثر صعوبة او ربما مستحيلا لان الكونغرس سيعارض مثل هذه الصفقات.
ومراقبة السجال التركي - الاميركي في الاسابيع والاشهر الماضية وما يتسم به من مشاعر عتب واحباط  تذكّر بعلاقات حبيبين قديمين وصلا الى ازمة يمكن ان تؤدي الى انفصال وربما طلاق. الاتراك يقولون ان اميركا ترسل اليهم "اشارات متناقضة"، ويقول وزير الخارجية احمد داود اوغلو ان الرئيس باراك اوباما بعث الى اردوغان برسالة قبل 3 اشهر سمح فيها لتركيا بالتفاوض مع ايران للتوصل الى اتفاق يتضمن بعض القضايا التقنية التي تضمنها اعلان طهران مثل نقل 1200 كيلوغرام من الاورانيوم ذي التخصيب المتدني الى الخارج. كما ان الاتراك منزعجون لان اميركا لا تزال مصرة على فرض العقوبات على ايران بدلا من محاولة استخدام اعلان طهران كمقدمة لمفاوضات جدية ومباشرة مع طهران. تركيا ايضا ابدت انزعاجها لان اميركا لم تقدم لها مسبقا صورة واضحة عن طبيعة العقوبات التي ستفرضها على طهران، وهي دولة حليفة لها في حلف شمال الاطلسي، بينما تشاركت في هذه المعلومات مع روسيا والصين . (الاتراك قالوا انهم حصلوا من الصين على هذه المعلومات قبل الكشف عنها). الاتراك يقولون ايضا انهم كانوا يرغبون في تحسين العلاقات مع اسرائيل، ولكن اسرائيل بهجومها على "اسطول الحرية" قضت على هذه الفرصة، وحالت دون انعقاد الاجتماع الذي كان مقررا بين رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية التركي في واشنطن.
الاميركيون من جهتهم يقولون ان موقف تركيا من ايران عزز نفوذ موسكو ومكانتها في ايران، كما يشكون من ان تركيا وهي شريك استراتيجي قديم لاميركا وعضو في حلف الاطلسي لم تقف مع اميركا في مجلس الامن، بينما صوتت روسيا والصين على قرار العقوبات ضد ايران. الاميركيون يقولون ان اوباما تراجع عن موقفه الداعم لقرار ادانة "الابادة الارمنية" خلال الحملة الانتخابية ورفض تسمية العنف المنظم ضد الارمن على انه يرقى الى مستوى الابادة، وزار انقرة والقى فيها خطابا جديا اكد فيه رغبته في فتح صفحة جديدة مع العالم الاسلامي.
تراكم الخلافات والاحباط بين انقرة وواشنطن مرشح للتفاقم أكثر في الاشهر المقبلة مع ما يحمله ذلك من خسائر للطرفين اللذين سيجدان نفسهما امام خيارات صعبة.
ما هو مؤكد ان العلاقات لن تعود في أي وقت قريب، وربما ابدا الى ما كانت عليه من صداقة وشركة استراتيجية. البراغماتيون او "العثمانيون الجدد" لديهم رؤية جديدة لتركيا ومكانتها ودورها في المنطقة والعالم، وهي رؤية تتعارض في بعض تجلياتها مع سياسة ومصالح الولايات المتحدة وبعض حلفائها (اسرائيل وبعض العرب) في المنطقة.

واشنطن - من هشام ملحم     


المصدر: جريدة النهار

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…...

 الخميس 19 أيلول 2024 - 11:53 ص

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…... The economy is cen… تتمة »

عدد الزيارات: 171,099,379

عدد الزوار: 7,620,734

المتواجدون الآن: 0