إما وحدة حقيقية... وإلا فلننفصل من أجل لا شيء

المهدي لـ «الحياة»: أدعو إلى برنامج وطني وخريطة طريق إقليمية ودولية لإنقاذ السودان

تاريخ الإضافة الإثنين 10 كانون الثاني 2011 - 6:14 ص    عدد الزيارات 3019    التعليقات 0    القسم عربية

        


المهدي لـ «الحياة»: أدعو إلى برنامج وطني وخريطة طريق إقليمية ودولية لإنقاذ السودان
الأحد, 09 يناير 2011
الدوحة - محمد المكي أحمد

وحذّر في حديث الى «الحياة» من اضطرابات اذا لم توافق الحكومة السودانية على برنامج وطني متفق عليه في شمال السودان، مشدداً على «الجهاد المدني»، كما حذّر من أن يؤدي انفصال الجنوب الى حرب أكبر وأوسع وأخطر ودعا الى عمل كل شيء لتجنب الحرب.

ورأى أن الاضطراب (في شمال السودان ) سيؤثر في السلام والأمن الإقليميين والدوليين، وكشف أن النظام في الخرطوم أجرى اتصالاً مع حزب الأمة قبل يومين وعرض موضوع المشاركة في حكومة عريضة، وقال: «قلنا لا كلام ولا مشاركة في الحكومة (حكومة الرئيس عمر البشير) من دون الاتفاق على برنامج وطني»، وطرح المهدي برنامجاً من سبع نقاط على الحكومة والسودانيين للتوافق حولها وشدد على ضرورة احترام التنوع والتعددية وتوفير الحريات.

ووجّه انتقادات شديدة إلى نظام الحكم في شأن «ممارسة القمع والفساد المالي الكبير والسياسات الاقتصادية الخاطئة والإدارة المترهلة»، ودعا الى دستور جديد يحافظ على المساواة في المواطنة وحرية الأديان والتعايش بين الثقافات، كما دعا الى توأمة بين دولتي الشمال والجنوب وحل مشكلة دارفور.

وفي خطوة لافتة دعا المهدي أيضاً الى موقف اقليمي ودولي يعمل على إصدار قرار من مجلس الأمن يكون بمثابة خريطة طريق إقليمية ودولية لإنقاذ السودان من مخاطر حتمية ما لم تنفذ «أجندة وطنية» دعا اليها.

وحذّر الحكومة السودانية من عزلة داخلية كاملة ستتعزز بعزلة خارجية اذا رفض حزب المؤتمر الوطني الحاكم البرنامج الوطني الذي طرحه المهدي. وهنا نص المقابلة:

> ما هي رسالتك أو برنامجك الذي تطرحه لشمال السودان مع انطلاق عملية الاستفتاء في الجنوب؟

- أول شيء يجب أن نعمله هو عمل تحليل بعدي، للإجابة عن تساؤلات، لماذا تقريرالمصير، ولماذا صار الانفصال راجحاً، وكيف وماذا ينبغي أن نعمل كي لا يؤدي الانفصال الى حرب جديدة مثلما حدث بعد اتفاقية السلام الأولى التي عقدها نظام (الرئيس السابق) جعفر نميري عام 1972 وما تم فيها من سوء تنفيذ للاتفاقية أدى إلى حرب في عام 1982 أسوأ بمراحل من الحرب التي كانت قبل عام 1972.

الآن الاحتمال أن يؤدي الانفصال الى حرب أكبر وأوسع وأخطر من التي انتهت عام 2005 (بعد اتفاقية نيفاشا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان)، لا بد من عمل كل ما يجب عمله لتجنب هذه (الحرب).

> وكيف يتم تجنب الحرب؟

- في رأيي هناك أجندة وطنية تتكون من سبع نقاط هي الكفيلة بأن تحمي السودان من هذا المصير المظلم

> وما هي هذه النقاط السبع؟

- أولاً، الشمال بعد الانفصال، سيحتفظ بكل التنوع والتعددية التي كانت فيه قبل انفصال الجنوب، لأن السودان مكون أصلاً من ثلاثة أديان وخمس اثنيات، والأديان الثلاثة هي الإسلام والمسيحية والأديان الأفريقية، والاثنيات الخمس تتمثل في عرب وزنوج ونوباويين ونوبه وبجا. السودان سيحتفظ بكل هذا التنوع مع قلة عدد الزنوج وقلة في عدد المسيحيين، لكن كل مقومات التنوع ستكون قائمة ما يوجب أن نتفق على دستور يحافظ على المساواة في المواطنة وحرية الأديان والتعايش بين الثقافات واللامركزية والقسمة العادلة للسلطة والثروة.

البند الأول الذي يجب اتباعه لاستقرار الشمال هو هذا، و (يجب) أن يتوافق على هذا الدستور كل أهل الشمال وأن يقوم دستور مماثل في الجنوب.

ثانياً: لا بد من الاتفاق الآن في فترة ما قبل نهاية الفترة الانتقالية أي قبل تموز ( يوليو) 2011 (نهاية الفترة الانتقالية التي حددتها اتفاقية نيفاشا) على ما نسميه معاهدة توأمة بين دولتي الشمال والجنوب في حال انفصال الجنوب. هذه التوأمة ضرورية جداً ونحن الآن اقترحنا مقوماتها بصورة نريد أن تكون مقبولة لدى الأطراف كلها لتحقيق تكامل مؤسس ومصلحي بين الشمال والجنوب.

ثالثاً: لا بد من حل أساسي لمشكلة دارفور يستجيب لتطلعات أهل دارفور الحقيقية بلا مزايدات، ونعتقد أن وثيقة هايدلبرغ قد احتوت على جوهر ما يجب تحقيقه لحل المشكلة، ونعتقد أنها، بعد انفصال الجنوب، وإذا لم تحل بعد تموز 2011 فستتعقد الى ما لا نهاية، أي لا بد من حلها على هذا الأساس.

رابعاً: لا شك في أن هناك ضرورة قصوى للاتفاق على برنامج اقتصادي قوي لمواجهة آثار الانفصال في الشمال واحتواء اية مصادمات قد تحدث نتيجة السياسات الاقتصادية.

خامساً: لا بد من توفير الحريات بصورة أساسية.

سادساً: نعتقد أن التعامل مع المحكمة الجنائية ضرورة قصوى، والكلام عنها بالإهمال والتغاضي فيه عدم مسؤولية، ولا بد من التعامل مع هذا البند بواقعية.

سابعاً: إذا اتفق على هذه البنود لا بد من الاتفاق على آلية قومية وليست حزبية، ويمكن في ضوء ذلك تشكيل ما يمكن تسميته سواء حكومة قومية أو حكومة انتقالية أو حكومة وفاقية أو حكومة جامعة، لتنفيذ هذا الكلام برضا وتراضي أهل السودان، ونحن الآن نسعى إلى تحقيق ذلك. وفي تقديري وارد أن يقبل ووارد أن يرفض (هذا البرنامج المقترح)، واذا قبل فسيكون أفضل ما يحققه السودانيون لأنفسهم ووطنهم، واذا لم يقبل فسيكون السودان مقبلاً على مرحلة خطيرة جداً من الاضطرابات، وسيؤثر هذا الاضطراب في السلام والأمن الإقليميين والدوليين.

لذلك، أرى أن الأسرة الدولية والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي لهم مصلحة حقيقية في تنفيذ هذا الكلام (برنامج وطني سوداني متفق عليه) لتحقيق الاستقرار والسلام في السودان.

في تقديري يجب أن يعلن هؤلاء (المجتمع الدولي والعرب والأفارقة) من منبر مشترك عربي افريقي دولي أنهم يطلبون من السودانيين ويناشدونهم جميعاً أن يتفقوا حول هذه النقاط بأسرع فرصة ممكنة عبر عقد قمة سياسية، وانهم (السودانيون) اذا أخفقوا في تحقيق ذلك فالأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، بالتضامن معاً، يقررون اللجوء الى مجلس الأمن لإصدار قرار يقول بسلام السودان وينطلق من هذه النقاط.

والاعتبار الأساسي هو أن عدم تحقيق هذا البرنامج يعني انفجارات تؤذي وتضر بالسلام في الإقليم والقارة والعالم، وللأسف فإن ترك الأمور لمفاوضات عاجزة ولمناورات بائسة حتى الآن، لم يؤدِّ إلى أي حسم لقضايانا الحقيقية. أنا أتطلع إلى مجهود وطني سوداني للوصول إلى اتفاق على هذه الأجندة الوطنية، ولكن في حالة العجز أو عدم الرغبة، أتطلع الى موقف اقليمي دولي يعمل على قرار يكون بمثابة خريطة طريق اقليمية ودولية لإنقاذ السودان من مخاطر حتمية ما لم تنفذ هذه الأجندة الوطنية.

> هل تعتقد أن الحكومة السودانية ستتقبل البرنامج الذي طرحته، في ظل تمسكها بنتائج الانتخابات الأخيرة، وفي ظل التصادم بين رؤيتي الحكومة والمعارضة؟

- لا أدري، لكن استطيع أن أقول بوضوح تام، إن الحزب الحاكم في السودان أمامه خيارات محددة، الخيار الأول، هو أن يتقبل هذا المشروع، فإن قبله كفى الله المؤمنين شر القتال، وإن لم يقبله ففي رأيي سيواجه عزلة كاملة في الداخل، وستكون هذه العزلة الداخلية معززة بعزلة دولية،ل أنه اذا رفض هذا المنطق فسيواجه هذه التطورات. أنا أعتقد أن المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في السودان) ما زال في صفوفه عقلاء، لأن سلوكهم يوضح أنهم في كل مرحلة يستجيبون لضغوط، وصحيح أنهم (عقلاء النظام) يستجيبون للضغوط بطريقة ناقصة لكن الآن حصحص الحق، ولا بد من الاستجابة الكلية (للبرنامج الوطني).

> أنت تتكلم بلغة مرنة، تمد يد الوفاق الوطني بين السودانيين، وتشدد في الوقت نفسه على برنامج وطني متفق علي ؟

- أنا أتحدث بهذه اللغة الآن لأنني أرى الخطر الماثل امام مستقبل السودان، ولم يعد هناك مكان أو زمن للمناورات أو الحديث الغامض، لهذا أتحدث بهذه اللغة الواضحة.

> هل تعتقد أن الحكومة السودانية ستعترف فوراً بالانفصال فور اعلان نتيجة الاستفتاء أم ستفاجئ الناس بموقف آخر؟

- أعتقد أن كانت لديهم (للحكومة السودانية) مشروعات، كان لديهم مشروع تشجيع بعض الأفراد أن يطعنوا في دستورية إجراءات الاستفتاء، وصحيح هناك دلائل على أن بعض التصرفات المتعلقة بالاستفتاء غير قانونية لكن الذي حدث أن الأعضاء الجنوبيين في المحكمة الدستورية انسحبوا ما جعل المحكمة تفقد النصاب لاتخاذ القرار، لذلك هذه الفكرة (فكرة الطعن في دستورية إجراءات الاستفتاء) لم تنجح. أيضاً، في تقديري، كانت هناك توقعات أن مشاكل أمنية ستحدث في الجنوب بسبب تصرفات بعض الجنرالات المنشقين في الجنوب (عن الحركة الشعبية) وأن يحدث هؤلاء اضطرابات أمنية تبطل إجراءات الاستفتاء، ولم ينجح هذا الاحتمال لا سيما أن الكنيسة الكاثوليكية بقيادة الكاردينال دينغ توسطت لعقد اتفاق وقف إطلاق نار بين الجيش الشعبي لتحرير السودان وجورج اتور (جنرال منشق عن الحركة الشعبية).

الآن ربما يكون هناك احتمال حدوث مشاكل لكن أعتقد أن المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في الخرطوم) أدرك أنه تحت مراقبة دولية صارمة بحيث إنه لا يملك إلا تأكيد أنه سيسهل مهام الاستفتاء ويقبل بنتائجه، وأعتقد أن رحلة الرئيس (عمر) البشير الأخيرة الى جوبا (عاصمة الجنوب) كانت من باب تأكيد هذا المعنى، لذلك أعتقد انهم سيقبلون نتائج الاستفتاء.

ونحن في حزب الأمة القومي من زمان (منذ فترة طويلة) كنا نطعن في جدوى الاستفتاء وفي ديموقراطيته، ومع أنني أعتقد أن الدلائل كلها تدل على أن الغالبية الجنوبية تؤيد الانفصال الا أن الاستفتاء كإجراء ديموقراطي معيب، وكل اقتراحاتنا لجعل الاستفتاء حراً ونزيهاً رفضت.

نحن منذ مدة وصلنا لرأي أن الاستفتاء سيكون معيباً وكتمرين ديموقراطي هو غير مقنع، ولكن هناك دلائل نحن أحصيناها وتؤكد أنه مهما كانت آليات الاستفتاء فإن غالبية الجنوبيين تريد الانفصال، ومن مصلحة السودان ألا تحدث خلافات حول هذا الموضوع، ولذلك قلنا على رغم هذه العيوب يجب الاعتراف بنتيجة الاستفتاء.

> هل يعني هذا أنكم في حزب الأمة ستعترفون بنتيجة الاستفتاء في حال الانفصال؟

- أيوه (نعم)، كما قلت لك لدينا دلائل - على رغم أن الاستفتاء كآلية معيب – تؤكد لنا أن الغالبية مع الانفصال.

> طرحت سبع نقاط على الحكومة السودانية والسودانيين عموماً لبناء الوضع الجديد في شمال السودان. هل جرى اتصال بين الحكومة السودانية وبين حزب الأمة للتداول في شأن هذه الأفكار؟

- نعم، اتصلوا وتكلموا (اتصلت الحكومة بحزب الأمة) عن فكرة الحكومة العريضة، ونحن قلنا لهم لا كلام عن حكومة ما لم يسبق ذلك البرنامج الوطني، قلت إن الكلام عن الحكومة يأتي كآلية لتنفيذ البرنامج، أما المشاركة في الحكومة من دون الاتفاق على هذا البرنامج فلا.

> هذا يعني ان حكومة البشير طرحت عليكم مجدداً الانضمام إلى الحكومة؟

- نعم.

> متى طرحت عليكم الحكومة ذلك؟

- قبل يومين.

> قوى المعارضة السودانية تطرح حالياً الإطاحة بالحكومة. أين حزب الأمة القومي في إطار هذا المشهد؟

- في رأيي لا توجد جهة عاقلة تريد الإطاحة بالحكومة الا اذا كانت الحكومة مصرة على العناد والانفراد. أعتقد أن الجميع ينتظرون استجابة الحكومة للأجندة الوطنية، ونحن سنقرر موقفنا في ضوء نتيجة موافقة أو رفض (حزب) المؤتمر الوطني للأجندة الوطنية.

> هل لديك فترة زمنية محددة أو مهلة ستحدد بعدها موقفك النهائي؟

- أنا حددت يوم السادس والعشرين من الشهر الحالي، اما أن يستجيب المؤتمر الوطني للأجندة الوطنية، وهذا يعني التفاوض من أجل الاتفاق عليها، واما أن يعلن عدم موافقته.

وفي هذه الحالة أنا أمام خيارين، وهما اما اعتزال السياسة والدعوة الى مؤتمر عام لحزب الأمة كي ينتخب رئيساً جديداً للحزب، أو أن أنخرط في صفوف من ينادون بإسقاط النظام، وفي هذا الصدد كثير من القوى السياسية عندها وسائلها (لإطاحة النظام)، لكن الوسيلة التي سنعتمدها (في حزب الأمة) ستكون الجهاد المدني، بما فيه من مواكب واعتصامات وعصيان مدني لتحقيق هذه الأهداف.

> هل ترفض اللجوء إلى انقلابات عسكرية؟

- الانقلابات العسكرية من حيث المبدأ في رأيي مرفوضة، وتؤدي دائماً الى نتائج عكسية.

> الوضع الاقتصادي بدا حالياً أكثر تأزماً بعد رفع الأسعار. كيف تنظر إلى الوضع الاقتصادي في ضوء السياسات الجديدة؟

- هذه السياسات كانت منتظرة، لأن النظام، منذ استغلال البترول، أهمل الإنتاج الزراعي والصناعي والموارد المتجددة واعتمد على البترول وهذا كان من أكبر الأخطاء. فالاعتماد على البترول وإهمال الموارد الأخرى جعل الاقتصاد السوداني اقتصاداً نفطياً وبما أن الجزء الأكبر من النفط يقع في جنوب السودان، فإن البلاد تتعرض لخطر كبير. كان ينبغي أن تتوقع (هذا الخطر)، وينبغي أن تستغل أموال البترول في المشاريع الزراعية والصناعية ولتطوير الموارد السودانية حتى اذا انفصل الجنوب.

ثانياً، من أهم الأخطاء التي ارتكبها هذا النظام، الانفجار غير المحدد في الإنفاق الإداري والأمني والعسكري، بصورة جعلت الصرف الحكومي منذ عام 1999، أي خلال السنوات العشر الماضية، يتضاعف حوالى عشر مرات، وهذا خطر كبير.

الإدارة المترهلة المتورمة والصرف التفاخري والسياسي على المؤتمر الوطني وعلى المحاسيب وغيرهم كان خطأ كبيراً جداً.

أي أن الخطأ الأول هو الاعتماد على مورد واحد، غير مضمون، اذا انفصل الجنوب، وحتى اذا لم ينفصل فإن الخطة للتعامل مع البترول خطأ.

ثانياً، هناك صرف غير مبرر إدارياً وأمنياً وعسكرياً، وهو صرف لا حدود له، وثالثاً، هناك التسيب الشديد الذي فتح باب فساد مالي كبير جداً حيث ضاعت بلايين الجنيهات السودانية في هذا الفساد.

في رأيي أن هذه الأسباب الثلاثة تشكل أخطاء أساسية في الإدارة الاقتصادية، وللأسف النظام (في الخرطوم) ولأنه يقوم على القمع، أراد أن يفرض على الشعب السوداني دفع ثمن هذه السياسات الخاطئة، وفي رأيي أن في كل حالة من هذه الحالات سيجد معارضة واسعة.

 

إما وحدة حقيقية... وإلا فلننفصل من أجل لا شيء
الأحد, 09 يناير 2011
الخرطوم - عصام أبو القاسم

يتوجه اليوم سكان جنوب السودان إلى صناديق الاستفتاء ليختاروا إما الوحدة مع الشمال أو الاستقلال عنه، فكيف ينظر المبدعون السودانيون سواء في الشمال أو الجنوب إلى هذا الموعد المصيري لهذه «البلاد الكبيرة»؟ والسؤال الأساس: هو كيف تعاطى الخطاب الابداعي مع مسألة العلاقة بين الشمال والجنوب، طوال العقود الفائتة؟ ويليه هذا السؤال: إلى أي حد يمكن أن تمثل حال الاستفتاء اختباراً لجهود تلك التيارات الأدبية التي برزت في ستينات القرن الماضي وتكلمت عن ضرورة تكريس الوعى بـ «الهجنة العرقية» مثل «الافروعربية» أو «الغابة والصحراء» والتي نظرت إلى الثقافة السودانية بوصفها مزيجاً من الثقافتين «العربية والأفريقية»؟

تلك هي الأسئلة التي توجهتُ بها إلى مجموعة من الكتّاب من الشمال والجنوب إلا أن معظمهم، وبخاصة كتّاب الجنوب، لم يهتم بهذه الأسئلة أو رفض الإجابة صراحة أو أبدى أعذاراً مثل: «فات الوقت على هذه الأسئلة ودولة جنوب السودان في الطريق»... وعلى رغم الحاحي إلا أن الحصيلة، حتى من كتّاب الشمال، جاءت أقلّ بكثير من المنتظر واستغرقت وقتاً طويلاً؛ فهل بات الانفصال راجحاً إلى هذه الدرجة؟

إجمالاً، ثمة ما يشبه الاتفاق، في الشهادات هنا، على أن «المبدع» لم تتح له الفرصة ليقول كلمته، وانه، طيلة العقود الفائتة، كان إما مسجوناً أو مطروداً أو مهمشاً.

ما يحصل الآن هو نتيجة طغيان «السياسي»، كما تقول الناقدة لمياء شمت، «ونحن في موسم القطاف المر لبذرة خبيثة انتهت بتنوعنا الحضاري الديموغرافي إلى محض حذر واسترابة وغبن تاريخي، ظل يغذيها عبر الحقب وهم التفوق وعقلية الفاتح الحكيم الذي لا يرضى بأقلّ من استباحة فضاء الآخر وإخضاعه وإذابته قسراً في ماعون العروبية بمضمره السلطوي الذي لا يرى في الأمر إلا إقصاء الآخر والانفراد بالغنيمة وتكريس سلطة الصوت الواحد القابضة على الحكم».

وترى شمت أن المبدع السوداني لم تتوافر له بيئة سوية، تسمح بترسيخ خطاب إبداعي أصيل يغرف من حكمة التنوع والدمج والتمازج العرقي الذي أفضى إلى حال سودانية خلاسية مميزة، كان يجدر بالمبدع أن يثاقفها ويقترح ممكنات لإدارة طابعها المتنوع وينقيها من الحمولات السالبة للتنميطات والأفكار الجاهزة والتصورات المتوهمة عن الذات/ الآخر. لكن أزمات السياسي وجلجلته طغت على كل شيء».

ويعبّر الروائي عبدالعزيز بركة ساكن عن وجهة نظر مماثلة قائلاً: «لطالما كان المبدع ضعيف الأثر في علاقته بالتغيرات الاجتماعية الكبرى في السودان». ويرد بركة ذلك إلى تفشى الأمية وسط قطاعات كبيرة من الناس، وتدهور المؤسسات التعليمية الموجودة وهشاشة المناهج التربوية ويضيف: «العلاقة بين الشمال والجنوب قوربت ابداعياً وانحازت رؤى المبدعين إلى الوحدة غالباً. ويمكن ذكر العديد من الأعمال والتيارات الابداعية المهمة التي احتفت بالتنوع الثقافي كتميمة لهذه الوحدة الجغرافية في صميمها مثل نصوص الشاعر السر اناي ومدرسة «الغابة والصحراء» وكتاب «كتابة الجنوب وجنوب الكتابة» لمعاوية البلال و «مريم عسل الجنوب» لسليمان حامد».

ويشير بركة إلى أن «المنابر الثقافية في الشمال تجاهلت دائماً معظم الأسماء الابداعية الجنوبية ولم تستوعبها ويمكن النظر إلى هذا التجاهل كدعوة باردة إلى الانفصال». وهو ما يراه الروائي خالد عويس أيضاً إذ يقول: «المبدع السوداني لم ينتبه إلى سمة التعدد في المشهد الثقافي وقد يكون ساهم، في شكل أو آخر، في تكريس استعلاء الثقافة العربية على ما سواها». ويضيف: «شخصياً أعتقد أن أعمالي الروائية كلها حامت حول هذا المعنى. في رواية «الرقص تحت المطر» كان البطل جنوبياً وتعرض لأصناف من المهانة. وفي رواية «وطن خلف القضبان» برزت شخصية ميري الجنوبية أيضاً ككائن مهمش ومهشم، أما في «كياح»، روايتي الأخيرة، فعالجت مسألة الجنوب في إطارها الإنساني، وهو الإطار الغائب دائماً في معالجاتنا كلها».

المبدع السوداني كان دائماً في صف الرهان على قدرة الإنسان بغض النظر عن اللون والعرق والجغرافيا والتمايزات التي تؤدي إلى الفتن، هذا ما يقوله الشاعر نصار الصادق لافتاً إلى أن: «الخطاب الابداعي السوداني كان دائماً خطاباً ضد العنصرية بكافة أشكالها». أما الشاعرة إشراقة مصطفي فترى أن المبدع السوداني لطالما كان ضحية للأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان؛ فهو كان إما «مدجناً أو مسجوناً أو مطروداً»، ولم يكن في مستطاعه ان يساهم بإبداعه في شكل مؤثر على مجريات الأمور.

في بلدها «أجنبية»

الكاتبة استيلا قايتينو من الأسماء الجنوبية القصصية المهمة التي برزت في التسعينات، وهي، على خلاف غالبية كتّاب الجنوب، تكتب باللغة العربية، وعلى نحو أبلغ من كثير من الكتّاب الشماليين، وقد عاشت وتعلمت في الخرطوم ويمكن القول إنها تعرف الشمال أكثر مما تعرف الجنوب، فهي لم تزر أرض جذورها كثيراً وغالب ما ترويه في نصوصها استلهمته من ذكريات جدتها وحكاياتها عما كان يحصل هناك.

استيلا التي لمع اسمها بقوة مطلع التسعينات بعد نشرها قصتها القصيرة الذائعة «بحيرة بحجم ثمرة الباباي» ثم نشرها مجموعتها القصصية «زهور ذابلة»، تقول إنها لا تعرف إن كانت ستذهب إلى جوبا أم ستبقى في الخرطوم: «سوف انتظر هنا إلي حين وأرى من بعد». لكنها اقترحت أن تستثمر ما تبقى من ساعات قبل الاستفتاء في كتابة «قفشات أخيرة» قبل أن تتحول إلى «أجنبية» في بلدها. فبعد الاستفتاء، تقول: «لن يتاح لنا أن نتفاصح ونطول لساننا». ومن قفشاتها: «سوف استيقظ يوم الأحد لأجدني زوجة أجنبية مع أنني لم أتحرك خطوة واحدة من بلدي».

وتقول أيضاً: «لطالما رغبت في الهجرة مثل كل الشباب السوداني الذي ضاق مما يحصل، ولكن لسوء حظي سأصبح أجنبية من دون أن أهاجر!».

وتحذر استيلا من أن موجة الانفصال ستشمل الأقاليم السودانية الأخرى بخاصة دارفور والنيل الأزرق وكردفان، وهى ترى أن وضع ما بعد الاستفتاء سيعمق الأزمات لأن أطراف الصراع لم يتعلموا شيئاً من اتفاق نيفاشا 2005 الذي أقر حق تقرير المصير لسكان الجنوب: «ستصبح تضحيتنا بوطن كاد أن يثبت عظمته من أجل دولتين تقلقان المنطقة، وقد خسرنا كل شيء من أجل لا شيء».

أما الناقدة شمت فان «الاستفتاء» بنظرها هو «نتيجة للفشل في استيعاب المكونات الثقافية المختلفة للحال السودانية وإدارتها». ويذهب الروائي عويس إلى القول ذاته: «السودانيون الذين أسهموا بعمق في الحضارة الإنسانية فشلوا بعد 8 آلاف سنة أو يزيد على فهم التعدد وأهميته في حياتهم». ويضيف: «الاستفتاء يمثل «العجز» السوداني الفاضح وقلة الحيلة أمام مجريات التاريخ الكبرى». أما بركة ساكن فيراه: «اختباراً لخطابات مستقرة أهملت خيارات الآخر ومحمولاته الثقافية ونظرته إلى هويته». ويطرح الشاعر نصار الحاج وجهة نظر مختلفة: «لا أرى أن الاستفتاء يمثل اختباراً لأثر تلك التيارات الأدبية أو المساهمات الثقافية التي تحدثت عن الثقافة السودانية بوصفها ثقافة أفريقية وعربية، التيارات الثقافية نفسها تعرضت للإقصاء والتهميش». ويوضح: «سؤال الاستفتاء هو سؤال سياسي، وظروف إنتاجه سياسية أيضاً». وتتفق اشراقة مع نصار في نسبة إقرار حق تقرير المصير لسكان الجنوب إلى السياسيين، وترى أن الدولة في الشمال لطالما همشت الجنوبيين: «أجيال متعاقبة منهم لم تعرف غير الحرب والنزوح والموت، حتى في نزوحهم ألى هامش المدن الكبيرة عاشوا المرارات». وتلفت إلى أن صوت الإعلام الرسمى عمل لوقت طويل على إشاعة ثقافة الحرب واحتفى بـ «ساحات الفداء والجماجم والأطراف المقطعة»، كما عمل الإعلام الرسمي، في ما تقول اشراقة على «تغيبب كامل لوعي الأجيال الجديدة وصار يحدد لهم خياراتهم بأن اذهبوا الى جنوب البلاد لمحاربة الكفار».

من هنا، تنحاز الشاعرة «الشمالية» إلى فكرة انفصال الجنوب، وتقول إنها لو كانت في مكانهم لاختارت الاستقلال، ولكنها تنتظر «وحدة قادمة، قائمة على الحرية والمساواة». أما لمياء شمت فتختار الوحدة «ولكن في وجود أمكانية واقع سياسي جديد يعطي الفرصة لمحاولات حقيقية لرتق الفتوق وللتدبر السديد إلا أنني أخشى أن الحالة الماثلة قد قطعت قول كل خطيب». ويرجح نصار الحاج أن يختار الجنوبيون الاستقلال «نتيجة تاريخ سياسي مشوه عبث به الرؤساء القادمون من المؤسسة العسكرية وما تبع ذلك من فساد وأضرار اقتصادية».

ويؤمن عويس بالوحدة بين طرفي البلادو لكن في ضوء مراجعات عميقة تنتظم مناهج التعليم وأجهزة الإعلام والتاريخ، وتشمل أيضاً لجاناً حقيقية للمصالحة بين المكونات السودانية التي ظلت تتقاتل لعقود. فهناك فظاعات رهيبة أُرتكبت، ومن حق الضحايا أن يعرفوا ما حدث ولماذا حدث وأن يحصلوا على اعتذار أو يطالبوا بمعاقبة الجلادين.

أما بركة ساكن فيختار «الوحدة، ولكن تلك التي تكون نتيجة اختيار حر». ويدعو بركة إلي الاستعداد لاستفتاء آخر سيجرى في 2019 في إقليم دارفور: «وأرى أن يعمل الناس للوحدة الجاذبة أو الجيرة الحسنة منذ الآن».


المصدر: جريدة الحياة

..Getting Past Libya’s Central Bank Standoff..

 الأربعاء 2 تشرين الأول 2024 - 6:21 ص

..Getting Past Libya’s Central Bank Standoff.. The long-running feud between Libya’s competing au… تتمة »

عدد الزيارات: 172,517,808

عدد الزوار: 7,692,047

المتواجدون الآن: 1