صراع الهيمنة في الشرق الأوسط...

تاريخ الإضافة الثلاثاء 22 تشرين الأول 2024 - 5:55 ص    التعليقات 0

        

صراع الهيمنة في الشرق الأوسط...

عبدالله اوجلان..

إنّ "الحربَ العالميةَ الثالثةَ" حقيقةٌ قائمة. ومِحورُها المركزيُّ هو ساحة الشرقِ الأوسطِ وأوساطُها الثقافية. والأحداثُ المُعاشةُ في العراقِ بصفتِه مركزَ تَرَكُّزِ "الحربِ العالميةِ الثالثة"، توضحُ بشكلٍ كافٍ أنّ الحربَ المندلعة فيه ليست معنيةً ببلدٍ واحد، بل وبمصالحِ ووجودِ قوى الهيمنةِ العالمية. ولا يمكنُ إنهاءُ هذه الحرب إلا بشلِّ تأثيرِ إيران كلياً، وباستتبابِ الأمنِ والاستقرار في أفغانستان والعراق، وبإخراجِ الصين وأمريكا اللاتينيةِ من كونِهما عنصرَ تهديد. وعليه، ما زلنا في منتصفِ الحربِ التي ستَدومُ فترةً قد تصلُ إلى عشرِ سنواتٍ أُخَر بأقلِّ تقدير، على الرغمِ من عدمِ صوابِ الجزمِ بذلك على صعيدِ العلوم الاجتماعية (آخِرُ المخططاتِ الاستراتيجيةِ للناتو أيضاً ترتأي استمرارَها لعشر سنوات). هذا وسيتكاثفُ الحِراكُ الدبلوماسيُّ فيها أحياناً والعنفُ أحياناً أخرى. وسيجري التدخلُ في الأجندةِ عبر أزماتٍ اقتصاديةٍ شديدةٍ ومضبوطة. سوف تتغيرُ أولوياتُ المناطقِ والساحات. لكنّ الحربَ ستستمرُّ في العديدِ منها بمنوالٍ شموليٍّ بهذا الشكلِ أو ذاك. من هنا، لن يَكُونَ بالوسعِ فهمُ دوافعِ تمشيطِ 1998 الذي استهدفَني على الصعيدِ الدوليّ بأفضلِ صورة، وأسبابِ كونِه أكبرَ تمشيطٍ للغلاديو يُدبرُه الناتو؛ إلا في حالِ وضعِ هذه الطبيعةِ الأساسيةِ للحربِ نُصبَ العين. وما لا شكَّ فيه هو أنّ مَن يربحُ دوماً في الحروبِ الكبرى ليس قوى الهيمنةِ فقط. بل قد تكسبُ الشعوبُ الكثير. بل وقد تخسرُ قوى الهيمنةِ على صعيدِ النظام، وتكسبُ الشعوبُ بالمقابل، وعلى صعيدِ النظامِ أيضاً.

وإذا ما حُلِّلَ هذا الوضعُ بكلِّ أعماقِه، فسيُلاحَظُ في واقعِ الأمرِ وبكلِّ سهولة، أنّ نِسبةً من السيادةِ الممنهَجةِ للنظامِ المهيمنِ الوحيد، والمنتشرةِ في كافةِ أرجاءِ العالَم، قد نُشِّطَت وسُوِّقَ لها ضمن الشرقِ الأوسطِ أيضاً. وقد سعَيتُ إلى كشفِ النقابِ عن هذا الواقعِ عندما عالجتُ نظريةَ المدنيةِ المركزية. لا يُمكِنُ لأحدٍ تصوُّرُ التاريخِ على أنه أجزاءٌ ثابتةٌ ومنفصلة، إلا إذا كان عقلُه مُشَتَّتاً شرَّ تشتيت. فالحقيقةُ هي نقيضُ ذلك. أي أنّ التاريخَ الكونيَّ حقيقة. وهو كحلقاتِ سلسلةٍ مترابطةٍ ببعضِها البعضِ إلى يومِنا الراهن. أو إنه يَسيلُ متدفقاً كالنهرِ الأمّ دون انقطاع.

إنّ تقييمَ الدولِ القوميةِ في الشرقِ الأوسطِ بأنها ولاياتٌ ضمن هذا النظامِ سوف يُقَرِّبُنا أكثر إلى الحقائقِ الاجتماعية. وكَونُ الولاياتِ جمهورياتٍ مستقلةً أو ممالك، لن يُغيّرَ من جوهرِها شيئاً. أما القولُ بقليلٍ من التبعيةِ وكثيرٍ من الاستقلال، فهو محضُ هُراءٍ وتُرَّهات. ومَن لا يستوعبُ هذه الحقيقة، فلن يستطيعَ فهمَ الانهيارِ الحاصلِ في روسيا الاتحاديةِ بعد سبعين عاماً، ولا إدراكَ إدارةِ الفاشيةِ البيضاءِ في الجمهوريةِ التركية، أو الفاشيةِ السوداء في الدولِ القوميةِ العربية، أو الفاشيةِ الخضراء في إيران وباكستان وأفغانستان. كما سيظلُّ قاصراً عن تحليلِ حالاتِ الانهيارِ المباغِتِ وتغييرِ اللونِ لدى الدولِ المسماةِ بالمستقلةِ في أرجاءِ المعمورةِ قاطبة؛ وكذلك عن تحليلِ كيفيةِ تحوُّلِ قوةٍ عملاقةٍ كالصين إلى قوةٍ رئيسيةٍ تَضخُّ روحَ الحياةِ في الرأسمالية.

فلَم تُشَيَّد الدولُ القوميةُ في الشرقِ الأوسطِ بالثورات. بل شُيِّدَت بدعمٍ وتسويقٍ من النظامِ المهيمن. والهدفُ الأوليُّ لهذه الدول هو استعمارُ شعوبِها باسمِ هذا النظامِ وبأشدِّ الأشكالِ صرامة. وقد كانت ناجحةً في ذلك. يَسري الأمرُ عينُه في عمومِ أصقاعِ العالَمِ أيضاً. وتتخفى هذه النُّظُمُ الاستعماريةُ خلف وضعِ الفوضى العارمةِ المتجذرةِ في الشرقِ الأوسط، والتي لا يُمكنُ الاستمرارُ بها إلا بنحوٍ وحشيٍّ مُريع. سنستطيعُ فهمَ هذا الواقعِ بمنوالٍ أفضل، عند التمحيصِ في مجرياتِ عصرِ رأسِ المالِ الماليِّ النيوليبراليّ الأخير، الذي يُسَلِّطُ البطالةَ الشاملةَ على شعوبِ المنطقةِ جمعاء، ويَستهلكُ مواردَها، ويقضي على البيئةِ فيها. وفي نهايةِ المطاف، فسيطرةُ فريقٍ يُشَكِّلُ عشرة بالمئة من نسبةِ السكان، ويَكسبُ المالَ من المالِ في ظلِّ هذا النظام، ويتَحَكَّمُ بجميعِ مفاصلِ الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والثقافية، ويُثيرُ التعصبَ القومويَّ والدِّينَويَّ دوماً بغيةَ مُواراةِ تَحَكُّمِه؛ كلُّ ذلك لا يدلُّ على نماءِ تلك البلدان، ولا على استقلالِ أُمَمِها. إذ، وبينما تحيا الشعوبُ أفظعَ مراحلِها سوءاً، فإنّ البقايا المتبقيةَ من الثقافةِ الاجتماعيةِ تُصهَرُ بالمقابل ضمن عجلةِ الدولةِ القومية.

ولا يمكنُنا تحليلُ مجرياتِ القرنَين الأخيرَين في الشرقِ الأوسط، ما لَم نَقرأ التاريخَ بعينٍ سليمة. فما جرى لَم يَكُ قوةً شبيهةً بالعثمانيين أو الإيرانيين أو بمغولِ جنكيز خان. أي أنه باختصار لَم يَكُنْ فتحاً أو غزواً لأيَّما مدنية. حيث يستندُ إلى نظامِ المدنيةِ المركزيةِ المتأسسِ مجدَّداً بنحوٍ مؤسساتيٍّ أيديولوجياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. موضوعُ الحديثِ هنا هو إحكامُ أوروبا الغربيةِ قبضتَها على نظامِ المدنيةِ المركزية، بناءً على تشييدِها إياه وفق الطرازِ الرأسماليّ، وتأسيسِها لهيمنته (اعتباراً من القرنِ السادس عشر)؛ وذلك بَعدَ محاولاتٍ حثيثةٍ دامت ألفَ سنةٍ بحالِها (بدءاً من أولى الحروبِ الصليبيةِ في عام 1096 إلى الحربِ العراقيةِ الأخيرةِ في عام 2003).

ولا تزالُ ثقافةُ الشرقِ الأوسطِ بعيدةً عن فهمِ كيفيةِ حصولِ غزوِها خلال القرنَين الأخيرَين. بوِسعِنا استخلاصُ ذلك بأكثرِ حالاتِه شفافيةً من مأساةِ صَدّام حسين. فما يُزعَمُ أنها "حروبُ الاستقلال" التي دارت رَحاها في غضونِ القرنَين الأخيرَين، سواء باسمِ الإسلامويةِ المستحدَثة، أم باسمِ القومويةِ العلمانية؛ هي في حقيقتِها حروبٌ ترمي إلى تصعيدِ الهيمنةِ الرأسماليةِ لا غير. حيث طُوِّرَ هذان الأسلوبان (الإسلاموية، القوموية) كنسختَين مشتَقَّتَين من الأيديولوجيا الاستشراقية. واستُخدِما تأسيساً على احتلالِ الذاتِ بالذات تحت اسمِ الرأسمالية. أي أنّه، وفيما خلا بضعةٍ من الحروبِ الريادية، قد حقَّقَ النظامُ المهيمنُ توسعَه ونموَّه في واقعِ الأمرِ على يَدِ الشرائحِ النخبويةِ في ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ بالذات عن طريقِ تلك الأجهزةِ الأيديولوجيةِ والسياسية (السلطة). هذه نقطةٌ بالغةُ الأهمية. ومن دونِ فهمِها كما ينبغي، فلن يَكُونَ بالمقدورِ تحليلُ أو حلُّ الوضعِ الراهنِ للشرقِ الأوسط. أو بالأحرى، فسيُبقى على المنطقةِ تتخبطُ في معمعانِ الفوضى عبر مشاريعِ النظامِ المهيمن (الشرق الأوسط الكبير)؛ سعياً إلى تفكيكِها وإعادةِ بنائِها وفق المصالحِ الجوهريةِ للنظام.

في الواقع، كان الهجومُ المُدَبَّرُ على البرجَين التوأمِ في نيويورك في الحادي عشر من أيلول سنة 2001، والذي تَرجحُ فيه كفةُ احتمالِ المؤامرة؛ كان مبادرةً لبدءِ النظامِ الرأسماليِّ بـ"الحربِ العالميةِ الثالثة". أما الإسلامُ الراديكاليّ، فكان في حقيقةِ الأمرِ يُستَخدَمُ كقناعٍ أيديولوجيّ، إثرَ انهيارِ الاتحادِ السوفييتيِّ في تسعينياتِ القرنِ العشرين، بعدَما أُعلِنَ منذ زمنٍ طويلٍ من قِبَلِ حلفِ الناتو، وبالتالي من قِبَلِ النظامِ العالميِّ المهيمن، أنه العدوُّ اللدودُ الجديد. أما الهدفُ من ذلك ضمنياً، فكان إتمامَ إرساءِ الهيمنةِ الرأسمالية، التي بقيَت منتصفةً عقبَ الحربِ العالميةِ الأولى داخل البلدانِ الشرقِ أوسطيةِ ذاتِ الثقافةِ الإسلامية. كان الغرضُ منه بصورةٍ خاصةٍ هو إرفاقُ الدولِ المسمّاةِ بالعاقّةِ والشقية، مثل إيران والعراق وسوريا وليبيا ومثيلاتِها، وإلحاقُها بمنوالٍ قويمٍ بالنظامِ القائم؛ إلى جانبِ تكريسِ الهيمنةِ الأمريكيةِ العالميةِ عموماً. إذ كان سيُملأُ فراغُ الهيمنة، الذي تَوَلَّدَ بعد انهيارِ النظامِ السوفييتيّ، بعدَ الشروعِ في "الحربِ العالميةِ الثالثةِ" في ظلِّ الهيمنةِ الأمريكية. فضلاً عن أنه كان سيُعمَلُ على سَدِّ الطريقِ أمام أيِّ صعودٍ محتمَلٍ للصينِ كمنافسٍ جديد. والهدفُ من أولِ حملةٍ استهدفَت أفغانستان، كان التصرفَ السريعَ لانتزاعِ زمامِ المبادرة، كي لا تتمكنَ روسيا والصينُ من ملءِ فراغِ الهيمنةِ المتولدِ في آسيا الوسطى.

وضعُ إيران والدولِ القوميةِ الأخرى أكثر تعقيداً. أما أفغانستان وباكستان، فتشهدان من الأساسِ أزمةَ الدولتيةِ القوميةِ بكلِّ فظاعتِها. فقد سلَّطَت حروبُ الدولةِ القوميةِ المندلعةُ خلال القرنِ الأخير على رؤوسِ تلك الشعوبِ وثقافاتِها نكباتٍ ربما تَفُوقُ القنبلةَ الذّرّيةَ حِدّةً. إذ تتعرضُ الشعوبُ المذكورةُ للدمارِ والاغتيالاتِ والمؤامراتِ بما لَم تَألَفْه في أيِّ عصرٍ من تاريخِها. قد تُواجِهُ إيرانُ كارثةً ذَرّيّةً في كلِّ لحظة. فالثقافةُ الإيرانيةُ ضمن صراعٍ دائمٍ ومنذ البدايةِ مع الحداثةِ الرأسماليةِ عموماً ومع الدولتيةِ القوميةِ خصوصاً. إنها تُقاوِمُ كلَّ هذه العناصر. ومنذ الآن تَعي الشعوبُ الإيرانيةُ أنه حتى المذهبُ الشيعيُّ المفروضُ عليهم كظاهرةٍ محليةٍ وتاريخيةٍ للغاية هو قومويةٌ خالصة، ونسخةٌ مشتقةٌ من الحداثةِ الرأسمالية، وقناعٌ أَفرَغَ الثورةَ الإيرانيةَ الإسلاميةَ من فحواها. وبناءً على ذلك تَقومُ تلك الشعوب بالانتفاضِ والتمرد. هذا ولا تختلفُ الأحداثُ الجاريةُ في أفغانستان وباكستان عن ذلك. حيث لا يمكنها طمسُ الحقيقة، رغم كلِّ بَهلَوانياتِ حزب الله والقاعدة وطالبان. وينبغي عدم إغفالِ أنّ دولاً قوميةً ذليلةً قد شادت الكياناتِ الثلاثةَ المموَّهة، أي حزب الله والقاعدة وطالبان، وباتت تستخدمُها الآن كورقةِ ضغطٍ تَبتَزُّ بها أسيادَها المهيمنين كأمريكا والاتحادِ الأوروبيّ، بغيةَ انتزاعِ حصةٍ أكبر لنفسِها. أي إنها تَستخدمُ أدواتِ التآمرِ والاغتيالِ والمجازرِ تلك، التي أَسَّسَتها سويةً، حيالَ بعضِها بعضاً، بغرضِ تدجينِ بعضِها البعض، وللحصولِ على حصةٍ أكبر. يَبدو أننا وجهاً لوجهٍ أمام أدواتٍ ابتُكِرَت لأجلِ أشنعِ الألاعيبِ التآمريةِ التي عرفَها التاريخ. إذ تُقتَلُ الشعوبُ وتُفنى الثقافاتُ بالتلاعبِ بأدواتِ التآمرِ تلك، وكأنّ لعبةَ البولنج هي السارية. واضحٌ وضوحَ الشمسِ أنه لا النظامُ قادرٌ بهذه الأدواتِ على إيجادِ مكانٍ أوسع له في منطقةِ الشرقِ الأوسط، ولا الدولُ القوميةُ المتحالفةُ معه قادرةٌ على الفلاحِ بها.

ونخصُّ بالذِّكرِ إيران، التي تعتقدُ بإمكانيةِ تغلبِها على الحداثةِ الرأسماليةِ باللجوءِ إلى تقاليدِ الدولةِ العريقةِ لديها. أو بالأحرى، إنها تَعتقدُ بمقدرتِها على الحظيِ برضى النظام، من خلالِ إيمائِها بذلك. يَبدو أنّ استثمارَ التاريخِ بهذا المنوالِ هو أنكى أشكالِ الفناء. فالاعتقادُ بإنقاذِ الدولةِ القوميةِ عبر خلطِ الحداثةِ والتقاليدِ التاريخية ببعضها بعضاً إلى هذه الدرجة أو تلك، لا يُمكنُ إيضاحُه إلا بـ"مَكرِ العجم". وانطلاقاً من هذه الأسباب، فقد تُرسَمُ ملامحُ المستقبلِ المنظورِ للشرقِ الأوسطِ عن طريقِ إيران. وبالفعل، تُعتَبَرُ إيران بمنزلةِ المحورِ الأمِّ لمداولاتِ الحداثة. إذ ستتكاثفُ النقاشاتُ الأيديولوجيةُ والسياسيةُ بصددِ الحداثة، مهما قامَت بتحريفِ مجرى القومويةِ الشيعية. ويَلوحُ أنّ الشعوبَ الإيرانيةَ تدركُ الحداثةَ الرأسماليةَ أكثر من الشعوبِ الأخرى، ولا تخنعُ لها. ومهما عَوَّلَت القومويةُ الشيعيةُ الحاليةُ على مناهَضةِ إسرائيل وأمريكا والغربِ باطلاً ورياءً، إلا إنها لن تستطيعَ عرقلةَ تطلعاتِ الشعوبِ الإيرانيةِ بشأنِ الحداثةِ المناسبةِ على المدى الطويل. بل ولن تقدرَ على إنقاذِ مواقفِها المُقَنَّعةِ حيال طموحاتِ تلك الشعوب، حتى لو تساومَت مع أمريكا وإسرائيل.

فإنّ تقاليدَ الدولةِ الإيرانيةِ لا تقبلُ التحجيمَ إلى الحدودِ الدنيا بسهولة. بل حتى إنّ المَلَكيةَ الإيرانيةَ في العصرِ الحديثِ أيضاً قاومَت التحجيمَ إلى الحدودِ الصغرى أكثر من الجمهوريةِ التركية. فقد اتَّخَذَت الثورةُ الإسلاميةُ الإيرانيةُ 1979 موقفاً مهماً إزاء نظامِ التوازنِ وتحجيمِ الدولِ القومية، التي خُطَّت حدودُها المعنيةُ بمنطقةِ الشرقِ الأوسط، إلى الحدودِ الدنيا. كما فرضَت نفوذَها منذ البدايةِ ضد الهيمنةِ الإسرائيلية. ورغمَ قَبولِ الجمهوريةِ التركيةِ والدولِ القوميةِ العربيةِ بشرعيةِ نظامِ الدولةِ القومية، الذي مَكَّنَ من وجودِ إسرائيل، إلا إنّ الثورةَ الإسلاميةَ الإيرانية –ورغمَ تذبذبِها وعدمِ ثَباتِها– لَم تَقبلَ بالوضعِ المرسومِ كما هو. بل شرعَت تبذلُ جهودَها لتكوينِ هيمنةٍ مضادة. لذا، فالتوترُ المُلاحَظُ في راهنِنا بين إيران وإسرائيل لا يجري بين دولتَين قوميتَين وحسب. بل ويجري بين نظامَي قوتَين تعملان على بسطِ نفوذِهما.

إلا إنّ الأوليغارشيةَ الإيرانيةَ بدأَت في راهنِنا بخوضِ صراعٍ ضد إسرائيل بشأنِ بسطِ الهيمنةِ على الشرقِ الأوسط. ونخصُّ بالذِّكرِ أنها تعملُ على استخدامِ أنشطتِها النوويةِ كثاني ورقةِ ضغطٍ بيَدِها لمآربِها هذه. كما تطلَّعَت التقاليدُ الشيعيةُ إلى الهيمنةِ تاريخياً أيضاً. فهي تُسنِدُ ظهرَها إلى إيران مهيمنةٍ لآلافِ السنين، وتُحكِمُ قبضتَها عليها كسلاحٍ بيَدِها، ولكنها تغالي من قوتِها في ظلِّ ظروفِ الحداثةِ الرأسمالية. إلا إنّ فرصةَ الأوليغارشيةِ الشيعيةِ الإيرانيةِ في النجاحِ جدُّ متدنية، في حالِ لَم تَصُّبّْ تركيزَها على خيارِ حداثةٍ جذريةٍ في عصرٍ تَعَولَمَ فيه النظامُ القائمُ إلى أقصاه. زِدْ على ذلك أنها تُشَبِّهُ نفسَها بدولِ بريك، وتَقومُ بحساباتِ تشكيلِ حلفٍ منفردٍ بذاتِه. كما تتطلعُ إلى توظيفِ سوريا في توسيعِ التحالفِ الذي أبرمَته مع جمهوريةِ AKP الثانيةِ على خلفيةِ معاداةِ PKK. لكنّ كلَّ هذه الحساباتِ لا قيمة لها على الإطلاق. وعلى غرارِ الدولِ القوميةِ الأخرى في المنطقة، فإنّ أمام الدولةِ القوميةِ الإيرانيةِ أيضاً طريقَ حلٍّ لقضاياها العالقةِ على محورَين اثنَين. إذ تصبُّ وعودُ الحلِّ للمحورِ الأولِ في مَصَبِّ الوفاقِ مع النظامِ القائم، تماماً مثلما هو النظامُ المَلَكيّ. في حقيقةِ الأمر، فالأوليغارشيةُ الشيعيةُ جاهزةٌ لذلك. إلا إنّ النظامَ لا يَقبَلُ بها كما هي. لكنّ مفاوضاتِ الوفاقِ الجاريةَ ستنتهي –دون بُدٍّ– لصالحِ القوى الرأسمالية المهيمنة، بالسِّلمِ كان أم بالحرب. أما في المحورِ الثاني، فسيَتمُّ الانقطاعُ الجذريُّ عن النظام، عندما يغدو حلُّ القضايا العالقةِ في الأجندة. وهذا ما سيُكَوِّنُ حلَّ العصرانيةِ الديمقراطيةِ الذي لا ملاذ منه، في حالِ باتت الأوليغارشيةُ الشيعيةُ وقوى الهيمنةِ الغربيةِ (وعلى رأسِها إسرائيل) خائرةً وعديمةَ الحلّ.

وأمسَت الدولةُ القوميةُ العربيةُ منذ أمَدٍ بعيد تناقضاً رئيسياً يستقطبُ حتى غيظَ شعوبِها وحنقتَها الشديدة. حيث إنّ الدولةَ القوميةَ العراقية، التي تَبدو وكأنها الأقوى، هي بحالتِها الراهنةِ بمنزلةِ مقبرةِ الدولةِ القومية. فمثلما لا يمكنُ تأسيسُ دولةٍ جديدةٍ مكان الدولةِ القديمةِ المنهارة، فإنّ احتمالَ انقسامِها إلى ثلاثِ دولٍ قوميةٍ سيُزيدُ من حِدّةِ الإشكاليات، منتقلاً بالاشتباكاتِ إلى أبعادٍ تصلُ حدَّ التطهيرِ العرقيّ. إذ يَلوحُ أنّ الدولَ القوميةَ الثلاث: أي العربيةَ الشيعيةَ والعربيةَ السنيةَ والكردية، ستَكُونُ شاهدَ عيانٍ على أكثرِ المشاهدِ دمويةً في القرنِ الحادي والعشرين. ولدى إمعانِ النظرِ في الوضعِ القائم، ومقارنتِه بمجزرةِ حلبجة المُعاشةِ في الماضي القريب، بالإضافةِ إلى المجازرِ الأثنيةِ والمذهبيةِ الأخرى؛ فسيُدرَكُ بنحوٍ أفضل مدى فظاعةِ الاشتباكاتِ الدولتيةِ القوميةِ المستقبلية. ما نودُّ ذِكرُه هنا هو حاضرٌ ومستقبلٌ شبيهان إلى حدٍّ بعيدٍ بأحداثِ إفناءِ دولِ المدينةِ بعضَها بعضاً في التاريخِ السومريّ. بمعنى آخر، لن يَكُونَ خطأً اعتبارُ الحالِ الراهنةِ والمستقبلِ القريبِ لجميعِ الدولِ القوميةِ العربية، بدءاً من المغربِ إلى اليمن، ومن السودانِ إلى سوريا ولبنان، على أنهما لا ولن يختلفا عمّا هو عليه عراقُ اليوم. وعلى الرغمِ من صِراعِها ظاهرياً مع إسرائيل، إلا إنها مضموناً تُعَزِّزُ وجودَ إسرائيل وتُنعِشُها موضوعياً. حيث إنّ وجودَها جميعاً ممكنٌ عبر هيمنةِ إسرائيل. ولَربما كانت الدولُ القوميةُ العربيةُ أكثرَ مَن هو بحاجةٍ ماسةٍ إلى إسرائيل.

تُعَدُّ النزعةُ الإسلاميةُ السياسية، بصفتِها قومويةً سائدةً في العالَمِ العربيّ، مشحونةً بالإشكالياتِ التي تضاهي ما هي عليه القومويةُ العلمانيةُ ودولتيتُها القوميةُ بدرجاتٍ كبيرة. هذه القوموياتُ المعتمِدةُ على استغلالِ الإسلامِ الثقافيِّ لخدمتِها، لن تذهبَ في دورِها أبعد من التحولِ إلى حركةٍ فاشيةٍ متأخرة. بل حتى إنّ عجزَها عن تخطي دورِ التنظيمِ الاستفزازيِّ البارافانيِّ المُسَخَّرِ كلياً لخدمةِ الدولِ القومية (مثلما لوحِظَ في مثالِ تنظيمِ القاعدة)، أضحى واقعاً مفروغاً منه. وعليه، فالدولُ القوميةُ العربية، القديمةُ منها أو الجديدةُ المُرادُ تشييدُها، لَم ولن تتعدى دورَ حَفّارِ القبور، فيما يتعلقُ بالحياةِ الاجتماعيةِ والتقاليدِ الإسلاميةِ على السواء.

سواء كانت تُوَجَّهُ أمريكياً–أوروبياً أم روسياً، فإنّ الدولةَ القوميةَ التركيةَ ببُناها الصغرى لن تستطيعَ البتةَ القيامَ بدورِ السلطاتِ والدولِ القديمةِ ذاتِ الأصولِ التركية، ولا تَخَطّي مكانةِ ولاياتِ النظامِ الذي تتبعُ له. وانطلاقاً من شكلِ تشييدِها، فإنّ مسارَها قد حُدِّدَ أساساً بموجبِ الاحتياجاتِ الإقليميةِ للهيمناتِ الرأسماليةِ والاشتراكيةِ المشيدة. فقد كُلِّفَت بمَهَمّةِ التخلصِ من عبءِ الماضي المُعرقِلِ ومن سدِّ الطريقِ أمام تمرداتِ شعوبِها. وبنظرةٍ خاطفةٍ إلى ماضيها خلال العقودِ التسعةِ المنصرمة، فبوسعِنا الإشارةُ يسيراً إلى أنها أدت دورَها هذا، وكأنها مُناطةٌ بمَهَمّةِ عكسِ الدورِ الذي قامَ به الأتراكُ خلال الأعوامِ الألفِ المنقضية، وقَلبِه رأساً على عقب. فجميعُها تُعَوِّلُ على التحجيمِ والتقوقع، وتتصرفُ وكأنها غيرُ مسؤولةٍ أبداً تجاه ثقافةِ المنطقةِ وشعوبِها، بل وحتى إنها عاجزةٌ عن القيامِ بدورٍ إيجابيٍّ حيالَ بعضِها البعض. وهذا الوضعُ على علاقةٍ كثيبةٍ بعاداتِ الحياةِ والعقليةِ القومويةِ والدولتيةِ الضيقةِ التي أُقحِمَت فيها. بالتالي، فهي بحالتِها الراهنةِ لن تستطيعَ أنْ تَكُونَ حتى ظلاً للماضي، الذي طالما تُكيلُ له النقدَ اللاذعَ أو تتشبَّهُ به في بعضِ الأحايين. وعليه، فهي تُعَدُّ من أكثرِ الدولِ القوميةِ التي تستلزمُ المرورَ بالإصلاحِ في المستقبلِ المنظور.

لكنّ معالمَ النموذجِ المتجسدِ في "جَمِيعةِ الإسلامِ التركيِّ" مؤخراً تتشكلُ مرةً أخرى بمقتضى احتياجاتِ البيدقِ الأماميِّ للنظامِ المهيمن، أكثر من كونِها إصلاحاً. ومثلما لَم يَطرأْ عليها أيُّ تحولٍ يُذكَرُ من حيث المضمون، فمن غيرِ الواردِ كثيراً قيامُها بانتزاعِ أيةِ حصةٍ في النزاعاتِ التي دخلَتها مع أسيادِها. ومثلما حالُ العربِ تماماً، فحتى لو جُمِعَت جميعُها، فلَن تساويَ إسرائيل واحدة. بل ولا خيار أمامها سوى الانضواء تحت هيمنةِ إسرائيل. فكيفما رُبِطَ نشوءُها بظروفِ ولادةِ إسرائيل، فإنّ مصائرَها في المراحلِ المتأخرةِ من عهودِها أيضاً، ستُحَدَّدُ ارتباطاً بوجودِ إسرائيل. وبالطبع، سيَكُونُ الأمرُ كذلك في حالِ عدمِ تجاوُزِها الذهنيةَ الحاليةَ وقوالبَ الحياةِ السائدة.

هذا الواقعُ الجديدُ جعلَ إعادةَ التفكيرِ بمنزلةِ إسرائيل في المنطقةِ أمراً ضرورياً. فبناءُ إسرائيل ليس، ولا يُمكنُ أنْ يَكُون، كبناءِ أيةِ دولةٍ قوميةٍ أخرى في المنطقة. كما إنّ إسرائيل ليست دولةً قوميةً يهوديةً فحسب. ولا يمكنُ الاكتفاءُ بفهمِها على هذا النحو.

باستطاعتِنا القولُ بكلِّ يُسرٍ أنّ سياقَ إنشاءِ إسرائيل هو بمثابةِ مؤشرٍ أوليٍّ على تصاعدِ الهيمنةِ الأنكلوسكسونيةِ داخل المنطقة. ذلك أنه جرت هيكلة إسرائيل بصفتِها القوةَ النواةَ للهيمنةِ الجديدةِ في المنطقة، بعدَ التدميرِ المتعمَّد للإمبراطوريةِ العثمانية. أي أنّ ما تمثلُه هيمنةُ إنكلترا–أمريكا بالنسبةِ إلى العالَم، تقومُ به إسرائيل بالنسبةِ إلى الشرقِ الأوسطِ كقوةٍ مهيمنةٍ جديدةٍ في المنطقة. وبتعبيرٍ آخر، فإنّ إسرائيل ليست مجردَ دولةٍ قوميةٍ يهوديةٍ صغرى. بل وهي قوةٌ مهيمنةٌ كبرى في الوقتِ عينِه.

بمعنى آخر، فالمنطقُ المتسترُ خلفَ إنشاءِ كلِّ الدولِ القوميةِ في الشرقِ الأوسط، لا يرتكزُ إلى حلِّ القضايا الاجتماعيةِ العالقة، بل إلى مُضاعفتِها والإبقاءِ على تلك الدولِ القوميةِ كأنظمةِ حربٍ داخليةٍ وخارجيةٍ دائمة. والسببُ الرئيسيُّ وراء ذلك هو إنشاءُ إسرائيل باعتبارِها نواةَ القوى المهيمنة. وعليه، لا يمكننا استيعابُ كيفيةِ تصميم وتأسيسِ توازنِ أو اختلالِ الدولةِ القوميةِ في الشرقِ الأوسط، إذا لَم نفهمْ إسرائيل من حيث هي نواةٌ مهيمنة. وخيرُ برهانٍ على هذا التشخيصِ هو القضيةُ الكرديةُ وتجزيءُ كردستان.

لقد تمَّ شلُّ تأثيرِ ركيزةِ PKK فيما يخصُّ المستجداتِ البارزةَ ضمن مثلثِ سوريا–إيران–PKK، بالنسبةِ إلى التحالفِ القائمِ بين أمريكا–إنكلترا–إسرائيل، الذي يسيطرُ على الهيمنةِ الرأسمالية. ولكن، من العصيبِ القولُ أنّ تطوراً كهذا يدخلُ في منفعةِ النظام. لقد أُجلِسَت تركيا مكانَ PKK، ولو لغاياتٍ تكتيكية. فالاتفاقُ بين تركيا–سوريا–إيران مُزعِجٌ إلى أبعدِ حدّ بالنسبةِ للنظامِ المهيمن، حتى لو كان مبنياً على معاداةِ الكرد. بل ويحملُ نتائج أشدَّ خطورةً مما يُشَكِّلُه وضعُ PKK. وعليه، فهو يشيرُ إلى وضعٍ لا يُمكنُ لإسرائيل خصوصاً أنْ تَقبلَ به. وقد دخلَت تركيا هذا الاتفاقَ لأجلِ زيادةِ وزنِ الأوراقِ التي في حوزتِها. أما آمالُ تركيا من التحالفِ الأمريكيِّ–الإنكليزيِّ–الإسرائيليّ، فهي: تسليمُها زمامَ التحكمِ بالكردِ في العراق؛ إعطاؤُها الضمانَ بعدمِ اندفاعِهم وراءَ أيِّ شكلٍ من أشكالِ السيادة، استقلالاً أم شبهَ استقلال؛ إعطاؤُها حصةً أكبر من السمسرةِ الدائرةِ في الشرقِ الأوسط؛ وعدم إيقاعِ إيران في وضعٍ مماثلٍ لِما حلَّ بالعراق. لكنّ تلك الأمالَ ليست منطقيةً من جهةِ السياساتِ التي مارسَها النظامُ المهيمنُ خلالَ القرنَين الأخيرَين. لذا، فعلى تركيا الإذعان للنظام، أو أنْ تتحملَ عواقبَ الممارساتِ التي ستُطَبَّقُ عليها، على غِرارِ ما يحصلُ مع العراقِ وإيران. أما مطاوَعتُها التامةُ للنظام، فتقتضي تحقيقَ الوفاقِ مع الكرد، وفتحَ المسافةِ في علاقاتِها مع سوريا وإيران. وفي حالِ انقطاعِها عن النظام، وبحثِها عن محاور جديدة، أو تشكيلِها لمحاور جديدة؛ فعليها –بكلِّ تأكيد– أنْ تضعَ تَعَرُّضَها لتمشيطٍ شبيهٍ بذاك المُسَيَّرِ على العراق في الحُسبان. وفي هذه الحالة، سيؤازرُ النظامُ حركةَ الدولةِ القوميةِ الكرديةِ بكلِّ ما أُوتيَ من قوة، وسيُوَسِّعُ رقعةَ خليةِ الدولةِ القوميةِ الكرديةِ في العراق. وعليه، من المتوقَّعِ حينها تَكَوُّنُ القطبِ المؤلَّفِ من إسرائيل–الإدارة الكردية في العراق–KCK، والذي سيَنمُّ عن نتائج عظمى وتحولاتٍ كبرى في منطقةِ الشرقِ الأوسط. تقفُ تركيا الآن على الصراطِ المستقيم. فهي عاجزةٌ عن حسمِ خيارِها، وتَرعى سياسةً توازنيةً كلاسيكيةً مع الطرفَين. كما لن يستطيعَ النظامُ المهيمنُ أنْ يتراجعَ عن خطواتِه في الشرقِ الأوسط. وفي حالِ قيامِه بذلك، فلا بدّ عندئذٍ من حصولِ مستجداتٍ ستزعزعُ أركانَ العالَمِ أجمع؛ بدءاً من حسمِ أمرِ إسرائيل وتصفيتِها، ووصولاً إلى القضاءِ على الكثيرِ من الدولِ العربية، الصغيرةِ منها والكبيرة.

إننا نضعُ مثل هذه الأحداثِ المحتَمَلةِ نُصبَ العين، لدى الإشارةِ إلى "الحربِ العالميةِ الثالثة". حيث ستُستَخدَمُ أعتى أنواعِ الأسلحة، بما فيها الأسلحةُ النووية. لا جدال في أنّ النتيجةَ لن تختلفَ كثيراً عن حالِ أوروبا إثرَ الحربِ العالميةِ الثانية. بل وستَكُونُ أشدَّ وطأة. ولَئِنْ ما قِسناها مع الأحداثِ البارزةِ خلال الأعوامِ العشرةِ الأخيرة، فسنُدرِكُ فحوى وحشيةِ الأحداثِ المحتَمَلةِ بصورةٍ أفضل. ففي حالِ بقائِه في المنطقة، فإنّ النظامَ المهيمنَ لن يَقنَعَ بالوضعِ السائد. بل سيطمعُ في التغلبِ والتفوق، مثلما هي حالُ كلِّ نظامٍ مهيمن. وهذا ما سيستوجبُ تخليَ إيران عن نفوذِها الإقليميِّ المرتكزِ إلى الشيعية، وإيصالَها إلى حالةٍ من الخنوعِ والمطاوعة، مثلما كانت عليه في عهدِ الشاهنشاهية. لكنّ رضى إيران بهكذا وضعٍ يعني قبولَ الموت. في حين أنّ جميعَ المؤشراتِ تدلُّ على أنّ مساعيَ بسطِ النفوذِ على المنطقةِ ستستمرُّ باضطراد. وهكذا، ليس بعيداً عن الاحتمالِ بدءُ مرحلةٍ جديدةٍ من مراحلِ "الحربِ العالميةِ الثالثة". بينما لا يُمكنُ لوضعِ اللااستقرارِ هذا أنْ يدومَ طويلاً. وفي الحالاتِ الثلاثِ تتميزُ كردستان جغرافياً والكردُ على صعيدِ التحالفِ بمنزلةٍ استراتيجيةٍ مؤهَّلةٍ لتحديدِ الطرفِ الذي ستَكُونُ نهايةُ التوازنِ لصالحِه أو ضده. وبتعبيرٍ آخر، قد تتراجعُ كردستان من الآنِ فصاعداً عن كونِها رقعةَ شطرنجٍ تقليدية، وقد يتخلى الكردُ عن دورِهم كجنودٍ دمى؛ ليتحولوا إلى ذواتٍ فاعلة. والسياسةُ التي سيجري اتِّباعُها، والتحالفاتُ الداخليةُ والخارجية، هي التي ستحدِّدُ مسارَ ذلك.

فالحظُّ لن يحالفَ كثيراً "مشروعَ الشرقِ الأوسطِ الكبير"، الذي سعَت أمريكا إلى طرحِه. فهذا المشروعُ يرتكزُ بالأصلِ إلى الدولِ القومية. والعديدُ من المشاريعِ المماثلةِ قد زَجّت الشرقَ الأوسطَ في مزيدٍ من التعقيد. والأوضاعُ التي نَمّ عنها آخِرُ مشروع، لَم تَكُ مختلفةً عن ذلك. حيث لن يستطيعَ أيُّ مشروعٍ إنقاذَ الشرقِ الأوسطِ من أزماتِه الغائرةِ وقضاياه العالقة، أو تَجنيبَه الحروبَ والاشتباكاتِ الدموية؛ ما لَم يتخطَّ منطقَ الدولةِ القومية. ونظراً لإصابةِ "الجامعةِ العربية" و"منظمةِ المؤتمرِ الإسلاميِّ" بالعُطبِ حصيلةَ منطقِ الدولةِ القوميةِ عينِه، فإنهما لَم تتمكنا من صياغةِ الحلِّ لأيةِ قضيةٍ كانت. ولا يمكنُ أنْ تتوفرَ لديهما فرصةُ الحلّ، ما لَم تتجاوزا الذهنيةَ الحاليةَ وبناها القائمة. أما حروبُ بسطِ النفوذِ التي تشنُّها إيران وتركيا عن طريقِ حزب الله والقاعدة ضد أمريكا، وكذلك ضد إسرائيل بوصفِها قوةً مهيمنةً محلية؛ فلن تذهبَ في دورِها أبعدَ من إيصالِ القضايا إلى نفقٍ مسدود. كما إنّ حساباتِ اقتطاعِ الحصصِ قد تنقلبُ بلاءً عليهما. والوضعُ الذي آلَت إليه جميعُ ألاعيبِ الدولةِ القومية، الجديدةِ منها والقديمة، هو وضعٌ مسرودٌ على الملأ. أي أنّ وضعَ الشرقِ الأوسطِ الذي ازدادَ تفاقماً تحت اسمِ "نحن نحلُّ المشكلة، ونُزاوِلُ دبلوماسيةَ (صفْر مشكلة)"، والذي صُيِّرَ أكواماً من القضايا المتفاقمة والعقيمة؛ إنما هو وضعٌ بنيويٌّ مثلما سردنا آنفاً بكلِّ علانية. وهو يتأتى من الدولةِ القوميةِ لا غير.

تلعبُ نظريةُ الأمةِ الديمقراطيةِ ومصطلحاتُها دور الحلِّ المصيريِّ بالنسبةِ لحقيقةِ إسرائيل أيضاً، باعتبارِها النواةَ المهيمنةَ للدولةِ القومية. ثمة طريقان بشأنِ مستقبل إسرائيل. الطريقُ الأولُ هو تحوُّلُها إلى إمبراطوريةٍ إقليميةٍ تأسيساً على إشعالِها الدائمِ لفتيلِ الحربِ بغيةَ تمكينِ ديمومةِ هيمنتِها وفق المسارِ الحاليّ. فمن المعلومِ أنّ لإسرائيل مشروعٌ في بسطِ نفوذِها من النيلِ إلى الفرات، بل وحتى إلى أبعد من ذلك. إنه مشروعٌ خُطِّطَ له لأجلِ ما بعد عهدِ الإمبراطوريةِ العثمانية. ورغمَ قطعِ أشواطٍ لا يُستَخَفُّ بشأنِها، إلا إنه بالمقدورِ الإشارةُ إلى أنه لا يفتأُ بعيداً عن بلوغِ مآربِه. وكونُ إيران أيضاً (التي باتَت تقفُ في وجهِها مؤخراً) تضمرُ حساباتٍ مهيمنةً مماثلة، إنما يُفضي إلى التوترِ فيما بينهما. إلى جانبِ معاناتِها من توترٍ مشابهٍ مع تركيا أيضاً، رغمَ عدمِ الجزمِ بمدى جديتِه. بناءً عليه، فموضوعُ الحديثِ هنا هو سياقُ صراعٍ على الهيمنةِ الإقليمية، والذي يَبدو أنه سيمرُّ مشحوناً بالاشتباكاتِ الطاحنة. وتلك الحساباتُ المهيمنةُ المتبادلةُ بذاتِ عينِها، هي التي تُوَلِّدُ القضايا النابعةَ من الدولةِ القومية، والتي لا مفرَّ من تفاقمِها طردياً.

الطريقُ الثاني أمام إسرائيل والشعبِ اليهوديّ، هو الخروجُ من الطوقِ المُحاصَرِ بالأعداءِ المتربصين، والانضمامُ إلى مشروعِ "اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ في الشرقِ الأوسط"، واستلامُ زمامِ المبادرةِ الإيجابيةِ لتحقيقِ الانطلاقةِ بالتأسيسِ على ذلك. فبمقدورِ رأسِ المالِ الفكريِّ والماديّ، الذي تستندُ إليه إسرائيل، أنْ يؤديَ دوراً بالغَ الأهميةِ من أجلِ مشروعِ "اتحادِ الأممِ الديمقراطية". إذ بوسعِها تعزيزُ شأنِها أكثر كأمةٍ ديمقراطية، وتعميمُ ذلك على نطاقٍ أرقى لاتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ على صعيدِ الشرقِ الأوسط، مُحَقِّقةً بذلك الأمنَ واستتبابَ السلامِ المستدامِ الذي هي في مسيسِ الحاجةِ إليه.

ومثلما ذَكرنا بنفسِ العلانية، فإنّ ذهنيةَ الأمةِ الديمقراطيةِ وكيانَ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، اللذَين تتميزُ بهما العصرانيةُ الديمقراطية، يُشَكِّلان النموذجَ أو البراديغما الجديدةَ المفعمةَ بالمساواةِ والحريةِ والديمقراطية، والأنسبَ للخلاصِ من وضعِ الفوضى. إنه نموذجٌ يدلُّ كلَّ فردٍ ومجتمعٍ على الدربِ المؤديةِ إلى استتبابِ الأمنِ والسلام.

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب..مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع الفرقاء اللبنانيين..

 السبت 19 تشرين الأول 2024 - 4:13 ص

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب.. مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع ال… تتمة »

عدد الزيارات: 174,844,551

عدد الزوار: 7,769,767

المتواجدون الآن: 0