تركيا بين أتاتورك وأردوغان

تاريخ الإضافة الثلاثاء 9 تموز 2013 - 8:16 ص    عدد الزيارات 604    التعليقات 0

        

 

تركيا بين أتاتورك وأردوغان
فؤاد عجمي
أخطّ هذه السطور قبل الموعد المقرّر لمغادرتي هذه المدينة الساحرة التي تترك وقعاً كبيراً في النفس. إنه الصباح، السماء زرقاء برّاقة، بلون مياه القرن الذهبي. والمعالم الشهيرة التي نجدها على الطوابع البريدية - آيا صوفيا، جامع السلطان أحمد، مسجد السليمانية - تجعل مغادرة هذه المدينة أمراً صعباً ومؤلماً. طوال الأيام التي أمضيتها هنا، لم أتمكّن من أن أستكين لتدوين ما رأيت.
وصلت إلى اسطنبول من كردستان العراق ومدينتَيه الرئيستين، السليمانية وإربيل. كنت قد هيّأت نفسي للإجهاد في كردستان، ثم الراحة في اسطنبول. لكن حدث العكس تماماً: كان هناك سلام في كردستان، ومراكز للتسوّق وفنادق فخمة في أربيل، وسحر بلدة السليمانية التي لا تزال تبذل قصارى جهدها لإبعاد التمدّد المديني.
بعد هذا السكون، اسطنبول هي التي كانت محاصرة بالمتاعب السياسية. كان أحد أصدقائي في اسطنبول قد بعث إليّ برسالة وصلتني في كردستان، ينصحني فيها بعدم القدوم. وقد ذكر فيها أن التنقّل في المدينة صعب (إنه صعب أصلاً في الأيام العادية، فحركة السير هناك كابوس حقيقي)، وكان يعلم أنني متوجّه إلى الحي الأوسع حيث تقع ساحة تقسيم. لكنني لم أبدّل خططي.
منحت الاحتجاجات ساحة تقسيم نوعاً من الهالة الثورية. كان صديقي محقاً بنصيحته. ألحق المحتجّون أضراراً بالمكان، فقد اقتُلِع الآجر المرصوف على الطرقات المؤدّية إلى ساحة تقسيم، ونُصِبت متاريس، وأُحرِقت سيارات وقُلِبت رأساً على عقب في المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين. بدأت المتاعب يوم الجمعة، وقد وصلت إلى اسطنبول برفقة زوجتي يوم الاثنين. للروتين سلطته علينا؛ إنها الرغبة في العودة إلى زوايا مألوفة في مكان غير مألوف. ما إن أفرغت حقائبي حتى توجّهت إلى منطقة بيبك الفخمة عند مضيق البوسفور.
كان على الإسلام هنا أن يتكيّف مع الحداثة. كانت امرأتان ترتديان البيكيني وتتمدّدان تحت أشعة الشمس في الحديقة على مقربة من المسجد. لا شك في أن بيبك ليست تركيا، لكنها جزء منها. لم تكن بيبك تخفي ولاءاتها: كانت أعلام تركية - باللون الأحمر الزاهي مع النجمة والهلال - تزيّن المنتزه المحلي. وفوق الأعلام صورة لمصطفى كمال أتاتورك معتمراً قبعته العسكرية. هذا الحشد الأنيق هو من ذرية أتاتورك. لقد صنعهم؛ لقد قطع علاقاتهم مع العالم الإسلامي في الجنوب والشرق؛ وقال لهم إن الخلاص يقع نحو الغرب؛ وإنهم لن يُقتادوا من جديد إلى الماضي.
حذّروني من العودة من بيبك إلى تقسيم. بذل السائق قصارى جهده، إلا أنه لم يتمكّن من مواصلة السير. سار عبر التلال الشديدة الانحدار والشوارع الضيّقة، وكان يصطدم دائماً بالركام ويتعذّر عليه متابعة السير. استسلم، فترجّلنا من السيارة وأكملنا طريقنا مشياً على الأقدام باتّجاه تقسيم. لم يكن هناك أي تهديد، بل فقط شبّان متحمّسون لإرشادنا إلى الطريق، وكان عدد كبير منهم يعمل بطريقة منظّمة لرفع الركام والقطع المعدنية المحطّمة التي خلّفتها المتاريس التي لا شك في أنهم أقاموها مع أصدقائهم في اليوم السابق. كان هذا دليلاً على جدّية الأتراك وحبّهم للترتيب والتنظيم.
لو أُجريتْ مقارنات بين ميدان التحرير في القاهرة وساحة تقسيم - وهناك بالفعل سجال حول هذه المسألة - لتبيّن أن ما يجري في تقسيم أكثر رقياً إلى حد كبير. لقي 850 شخصاً على الأقل مصرعهم في ميدان التحرير؛ فقد تهجّم شبّيحة على ظهر الجياد والجِمال على المحتجّين، وكان أحد القنّاصة في الشرطة متخصّصاً بإطلاق النار على ضحاياه في عيونهم.
لم يحدث أيٌّ من هذا في تقسيم. فالصورة التي تحوّلت رمزاً للثورة هي لامرأة أنيقة ترتدي ثوباً أحمر، ويرشّها شرطي برذاذ الفلفل فيما يتطاير شعرها الأسود الطويل أفقياً بينما تدير وجهها.
أعلن أردوغان وقد عقدَ العزم على مواجهة الاحتجاجات "لا تستطيع الأقلية أن تحكم الأكثرية". قال لي جنكيز شندار، كاتب العمود التركي البارز الذي هو من الأكثر حنكة في تفسير ثقافة بلاده "الشيء الوحيد الذي يؤمن به أردوغان هو صناديق الاقتراع. فاز مع حزبه في ثلاثة انتخابات منذ عام 2002، ما منحه شعوراً بأنه صاحب حق سياسي. إنه مقتنع بأن السواد الأعظم من الناس معه. صناديق الاقتراع هي التي سمحت له بأن يكبح سلطة الجيش في الحياة السياسية التركية. ومن خلال الصناديق نفسها وضع حداً لنفوذ "الأتراك البيض" - النخب الاجتماعية والاقتصادية التي سيطرت لوقت طويل".
وجدتُ نفسي صدفةً وسط تظاهرة صاخبة تشق طريقها من ساحة تقسيم عبر شارع الاستقلال. خلافاً لما اعتقدت، لم يكن المشاركون شباباً في معظمهم. كانوا رجالاً ونساء متوسّطي العمر، فضلاً عن وجود شباب بينهم. وكانوا يرفعون الأعلام التركية إلى جانب صورة أتاتورك المهيبة. لقد أظهرت هذه الحشود بوضوح خطوط التصدّع في هذا الصراع: فتركيا - هويتها، ومكانتها بين الدول، وطبيعة حياتها السياسية - يتنازع عليها رجلان، المؤسس الأسطوري الذي توفّي عام 1938، والطامع الجديد بلقب المؤسس الذي صعد إلى الحكم من حي بائس في اسطنبول وأصبح المسؤول الثاني في الجمهورية. الحل الأمثل هو التوصّل إلى تسوية بين هاتين الرؤيتين المتنافستين. لكن أردوغان أثار الاستقطاب في البلاد.
كان أتاتورك، في مختلف الجوانب، نقيض ما يمثّله أردوغان. ففي حين يتبنّى أردوغان موقفاً حازماً من الكحول، كان كمال مدمناً على احتساء شراب الراكي، وهو نوع من الخمر المنكَّه باليانسون تشتهر به تركيا. في الواقع، توفّي أتاتورك جراء إصابته بتليّف الكبد في السابعة والخمسين. كان ضابطاً عسكرياً وغازياً، وكان يعتبر احتساء الكحول امتيازاً للرجال. أما أردوغان فقد وصل إلى حد نعت أتاتورك بالسكّير، وهذا الكلام التجديفي لم يتقبّله الأتراك الذين نشأوا على احترام المؤسس وتبجيله.
لا بد من الإشارة إلى أن أتاتورك سعى وراء هدف ليس أقل من القضاء على المنظومة الثقافية القديمة: فقد ألغى النظام العثماني القديم وأعلن قيام الجمهورية؛ وألغى الخلافة؛ وحظر اعتمار الطربوش والعمامة؛ وبدّل الروزنامة من التقويم الإسلامي إلى التقويم المسيحي؛ وحوّل الألفباء من الأحرف العربية إلى الأحرف اللاتينية؛ وأعلن إبطال البند الذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة. كان مشروعه هذا الأكثر طموحاً بين برامج الغربنة. اعتبر نفسه رجل تنوير، ورأى أنه يجب أن تكون لتركيا حصّتها من الثقافة الغربية. لم يكن ديموقراطياً، فقد كان يطبّق عقيدة سلطوية: "من أجل الشعب، رغماً عن الشعب".
لا يمكن أن يكون تطهير ثقافة بكاملها ناجحاً مئة في المئة. توفّي أتاتورك عام 1938، وظلّ فكره في تصاعد. لكن الإسلام لم يغادر المشهد مطلقاً. بل انتقل إلى العمل في الخفاء، وظهر من جديد في التسعينات. لم يتمكن الضبّاط، حرّاس المعبد الكمالي، من إخضاع البلاد بكاملها لسيطرتهم. لقد فرض الإسلاميون السياسيون وجودهم، ولم ينجح انقلاب عسكري ضدهم عام 1997 في القضاء عليهم.
بعد خمس سنوات، وصل رجب طيب أردوغان وحزبه السياسي إلى السلطة من طريق الانتخابات. وأعقبها انتصاران انتخابيان كبيران. كان أردوغان قد حضّر لارتقائه إلى سدّة الحكم: فقد حقّق نجاحاً كبيراً خلال تسلّمه منصب عمدة اسطنبول في التسعينات. كان صريحاً وشجاعاً. وقد وضعه الجيش في السجن بسبب دفاعه العلني عن الإسلام السياسي.
اندلعت الأزمة في تركيا عندما أعلن أردوغان عن نيّته إزالة حديقة صغيرة في ساحة تقسيم وبناء ثكنة عثمانية مكانها. كانت هذه العثمانية الجديدة بمثابة اعتداء مباشر على المعلَم الكَمالي الموجود منذ تأسيس الجمهورية عام 1923.
كما انتهك أردوغان ركيزة أساسية أخرى من ركائز العقيدة الكمالية. قطع أتاتورك العلاقات مع الدول العربية؛ لم يكن هناك ما يهمّه في العالم العربي. أما أردوغان، وبعد سنوات عدّة من صعوده السياسي، فقد غرق في السياسة العربية.
في أيار الماضي، تحدّث عن دور تركي في العالم، أبعد من حدود الدولة القومية: "لسنا مثل الدول الأخرى. لسنا دولة تلتزم الصمت حفاظاً على مصالحها. اليوم يرفعون الصلوات من أجلنا. إنهم يصلّون من أجلنا في غزة وبيروت ومكة. هذه هي المسؤولية الكبيرة التي نحملها على أكتافنا".
بعد بضعة أيام، في 11 أيار، انفجرت سيارتان مفخختان في بلدة الريحانية في محافظة هاتاي الجنوبية، ما أسفر عن مقتل 51 شخصاً. هذا هو، للأسف، الواقع المحزن في بيروت وبغداد ودمشق، لكنه جديد في تركيا. لا تزال هناك غالبية من الأتراك غير مرتاحة للعالم العربي، وتبدي رغبة في البقاء بمنأى عن جموحه. لم تلقَ النزعة العثمانية الجديدة استحساناً شعبياً.
أما السياسة التي ينتهجها أردوغان في التعامل مع الموضوع السوري فتلقى هي الأخرى رفضاً شديداً في أوساط الأتراك. فقد أظهر استطلاع أجري حديثاً أن 27 في المئة فقط من المستطلعين يؤيّدون سياسة حكومتهم في ما يختص بالأزمة السورية في حين يعارضها 54 في المئة. لقد سدّد عجز أردوغان عن دفع الرئيس باراك أوباما إلى الانخراط في المعركة في سوريا، ضربة قاضية له على الصعيد السياسي.
وصف الراحل صامويل ب. هانتنغتون في كتابه المرجعي "صدام الحضارات"، تركيا في عبارة شهيرة بأنها "بلد ممزّق". فقد كتب أن البلد الممزّق يمتلك "ثقافة واحدة طاغية تضعه في قلب حضارة معيّنة، لكن قادته يريدون تحويله نحو حضارة أخرى". وحذّر من أن إعادة تعريف الهوية ليست عملية سهلة على الإطلاق. فعلى الرأي العام أن يبدي استعداداً لقبول إعادة التعريف هذه، وعلى الحضارة المضيفة - أي الحضارة الغربية - أن تكون مستعدّة لاستقبال المهتدي.
اكتسبت عملية إعادة التعريف زخماً كبيراً في تركيا الكَمالية. لكن صعود أردوغان، وإيمانه بأن أوروبا قارة مريضة، وحنينه إلى الماضي العثماني تظهر أن مسار "البلدان الممزّقة" ليس أبداً بسيطاً أو مستقيماً.
باحث في جامعة ستانفورد الاميركية
ترجمة نسرين ناضر

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,153,904

عدد الزوار: 6,980,854

المتواجدون الآن: 83