أسئلة الثقافة والسلطة اختلاط الزيت بالماء

تاريخ الإضافة الأربعاء 5 تشرين الأول 2011 - 7:24 ص    عدد الزيارات 1269    التعليقات 0

        


عبد الحسين شعبان()

غالباً ما يثار السؤال هل هناك علاقة تكافؤ بين السياسي والمثقف؟ أي هل هي علاقة ندّية أم علاقة تبعية؟ ولماذا يحتاج السياسي إلى المثقف؟! هل لترويج خطابه؟! أو لتسويق أفكاره؟! أو للحديث نيابة عنه للجمهور؟! أو لاستخدامه في صراعه مع خصومه؟ أو لاستثماره في نزاعاته الداخلية الحزبية والحكومية؟ أو للاستفادة منه كجزء مكمّل للصورة المرسومة والتي تقضي أن يكون السياسي جليساً للمثقفين ونديماً للشعراء والأدباء، أو أن يكونوا هم من ندمائه، لاسيّما عندما يكون هذا السياسي حاكماً؟
وقد يكون الجواب: ما العيب إذا اقترن إسم المثقف بالسياسي أو الحاكم، لاسيّما إذا كان الانسجام والتوافق الفكري بينهما موجوداً، وتوافرت بينهما فسحة من الحرية المانعة للحواجز والقيود على الفكر والثقافة؟ في الوقت ذاته كيف يمكن للمثقف وضع مسافة فاصلة بينه وبين الحاكم، باعتباره غير ملحق به، ولا يستطيع الحاكم الاستغناء عنه أو تجاهله كلياً لأنه بحاجة إليه، وإنْ كان مطيعاً ومنفّذاً لتطلعاته أو مزوّقاً أطروحاته. لكن المثقف أحياناً يفكّر بأنه بدلاً عن إقصائه أو تهميشه، فقد تؤمن له تلك العلاقة الحماية والاستقلالية، باعتباره كياناً آخر وليس كجزء من حاشية الحاكم؟ وهو الأمر الذي يثير الكثير من الإلتباس وربما الإرتياب.
ولكن السؤال غالباً ما يثور وهل يُسمح للمثقف بمثل هذا الهامش؟ ثم وهل يتقبّل الحاكم ومن خلال سلطته، أن يكون المثقف ندّاً له، وليس واحداً من أتباعه؟ وإنْ رفض المثقف ذلك فإنه سيخسر السياسي، وإن ارتضى فإنه سيخسر نفسه!!
هناك درجات قاسية في معادلة الثقافي- السياسي، حسب طبيعة الحاكم وتوجهاته ومتطلباته، مثلما هي طبيعة المثقف واستعداداته وتمسّكه بحريته وثقافته وإبداعه.
لقد جالس السياسيون والحكّام على وجه الخصوص المثقفين، وأحاطوا أنفسهم بهم لإدراكهم أن الثقافة سلطة أخرى موازية للسلطة السياسية والعسكرية والبوليسية، وحسب فرانسيس بيكون، فإن المعرفة سلطة، أي أن سلطة المثقف هي معرفته ووسيلته الإبداعية لنشر ثقافته وبسط سلطانه، وكما يقال المعرفة: قوة أو سلطة (Knowledge is power)، إلاّ أن سلطة المعرفة تختلف عن السلطة السياسية والعسكرية من حيث التأثير والسلطان والجبروت، إذْ أن الأخيرة تمتلك أدوات القمع وبإمكانها تسخير الأدوات المعرفية والثقافية لفرض سلطتها القمعية.
وقد استخدمت الكثير من الأنظمة على نحو مترابط القمع السياسي البوليسي مترافقاً مع القمع الإيديولوجي الثقافي، خصوصاً بتطويع وتوظيف بعض المثقفين لتبرير سياساتها بما فيها القمعية، فضلاً عن ترويج خطابها، الأمر الذي انخرط فيه مثقفون غير قليلين وتحت مبررات مختلفة تارة طبقية وأخرى قومية وثالثة دينية، وهكذا، الأمر الذي يتطلب من المثقف إذا ما أراد احترام نفسه أن يحترم ثقافته وسيلته الإبداعية، نائياً بنفسه عن الاستخدام التوظيفي لثقافته من جانب السلطات لإضفاء مشروعية على القمع السياسي، فالمثقف الذي لا يخدم معرفته وثقافته لا يحترم سلطته، أو أنه يتنازل عنها بثمن بخس، والمسألة لا تعني ان عليه اختيار العزلة أو الاعتكاف أو عدم الاختلاط بالحكام، لكن المهم أن يُبقي المثقف يده على الزناد كما يقال لإطلاق كلمة الحق، كلّما شعر بضرورة ذلك، وكلما كان الأمر واجباً، فلا ينبغي له والحال هذه الاستقالة من دوره أو التخلي عنه.
تعود حاجة الحاكم للمثقف لأمرين أساسيين:
الأول- الظهور أمام الرأي العام كصاحب مشروع فكري- ثقافي، خصوصاً إذا كان للمثقف صدقية وضميرية، لأن ذلك يسبغ إيجابية على الحاكم وخطابه، وإذا حظي الحاكم بدعم المثقف، وخصوصاً بعض الرموز المهمّة، فإنه سيحظى بدعم شعبي.
والثاني- يريد الحاكم التظلل بمظلة الثقافي مبعداً "سلطويته" عن التصوّر السائد، لإدراكه بأهمية إظهار جوانبه الإنسانية ذات البُعد الأخلاقي، مستخدماً التأثير النفسي (Psychologie) في كسب تأييد المجتمع له.
كان بعض الحكام تاريخياً يغدقون على الأدباء والشعراء الموالين الذين يقومون بالترويج والدعاية الأيديولوجية، ويعاقبون من يمتنع عن ذلك، بالتهميش والعزل والسجن أحياناً، أو بالتصفية الجسدية، لأنهم يدركون أهمية سلطة الثقافة، وقد أثرت في كتابي "الجواهري- جدل الشعر والحياة" بطبعته الأولى، عن دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997، إلتباس علاقة الجواهري بالزعيم عبد الكريم قاسم، فالأول: زعيم السلطة الثقافية، الأدبية، والإعلامية، لكونه رئيس اتحاد الأدباء العراقيين ونقيب الصحفيين، أما الثاني: فهو زعيم السلطتين العسكرية والتنفيذية، أي القائد العام للقوات المسلحة وفي الوقت نفسه رئيس الوزراء.
وبالرغم من أن عبد الكريم قاسم زار بيت الجواهري كأول بيت يزوره بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وقال عنه: هذا البيت هو الذي أنجب الثورة، عاد وتنكّر لذلك بسبب خصومة كنت قد رويتها تتعلق بما كتبه الجواهري في جريدته "الرأي العام"، ولاسيّما مقالة بعنوان "ماذا يجري في الميمونة؟" وهي قرية في محافظة ميسان (العمارة) جنوب العراق، وذلك بعد تدهور الوضع السياسي في العراق واستدارة الحكم باتجاه الهيمنة الفردية، الأمر الذي قلّص هوامش الحريات التي جاءت بها الثورة، وبخاصة عندما ضاق صدر الزعيم إزاء أي رأي آخر. وكنت قد أضفت فقرة جديدة في طبعة الكتاب الثانية، الصادرة عن دار الآداب، في بيروت، 2009، بعنوان "الجواهري حيال السلطة والسياسة" وهي دراسة نُشرت في مجلة أبواب العدد 16، 1998 وهي تتعلق بصميم علاقة المثقف بالسلطة.
أسوق هذه المعلومات ليقيني بمدى أهمية وحساسية علاقة المثقف مع الحاكم، التي قد تثمر إيجاباً أو قد تُستثمر سلباً، لاسيّما إذا أدركنا اشتباك هذه العلاّقة وتعقيداتها، ولي أن أتساءل مرّة أخرى ما الذي أراده فيديل كاسترو من صداقته مع غابرييل غارسيا ماركيز الذي ظل يحرص على مواظبة اللقاء به؟ كما يمكنني القول، ما الذي أراده الأخير من كاسترو؟ ويمكن سحب السؤال على علاقة عبد الفتاح إسماعيل بأدونيس على الرغم من أنها لم ترتق إلى مستوى علاقة كاسترو بماركيز، وهي علاقات مزدوجة ومركّبة، وهو ما حاولت إضاءته في كتابي " كوبا الحلم الغامض"، خصوصاً المعادلة القاسية بين الثقافة والسياسة.
صحيح أن مسؤولية المثقف أكبر بكثير من مسؤولية الفرد العادي، لاسيّما إذا كان صميمياً، فهو تحت الأضواء أكثر من غيره ورأيه موثق، في حين أن الكثير من الناس يغيّرون لا آراءهم فحسب، بل ينتقلون من ضفة إلى أخرى، ويصدرون أحكاماً قاطعة وجازمة، ثم يعودون ليتراجعوا عنها، بل يناقضونها ولا أحد يحسب ذلك عليهم، أما المثقف فكل أمر محسوب عليه وموثق، لذلك عليه أن يتوخّى الدقة ويلاحظ حساسية موقعه.
يذهب بعضهم إلى تشبيه علاقة المثقف بالحاكم بحالة اختلاط الزيت بالماء، فهما عنصران غير قابلين للمزج والخلط حتى وإن وضعا معاً لفترة طويلة، فإنهما سيعودان كل إلى أصله، لا يندمجان ليشكلا عنصراً واحداً يملك الصفتين، ولذلك تظل العلاّقة بين المثقف والحاكم ملتبسة بالرغم من كل ما يرافقها أحياناً من مظاهر التوافق والتفاعل، وسيكون الخاسر الأكبر هو المثقف في غالب الأحيان، لاختلال موازين القوى، وخير مثال على ذلك ما انتهت إليه العلاّقة الحميمية بين المتنبي وسيف الدولة من الجفاء والعداء والهجاء.
وقد توجد ثمة استثناءات، لكنه بالرغم من ذلك لا يمكننا القول إنها علاقات متكافئة، فلم يكن ممكناً لماركيز كمثقف كبير هاجسه الحرية والحقيقة والجمال الحديث عن شحّ الحريات وغياب التعددية والرأي الآخر، وتلك الرسالة تشكل جوهر وظيفته الإبداعية باعتباره ناقداً اجتماعياً حسب ماركس ومثقفاً عضوياً حسب غرامشي، وأياً كان الحاكم تقدمياً أو رجعياً، علمانياً، أو متديناً، يمينيأً أو يسارياً، فهو حريص على علاقة خاصة بالمثقفين.
كما لم يكن بإمكان غوبلز وزير الإعلام وهيوس رئيس مسارح الرايخ سوى تلميع صورة أدولف هتلر وخطابه وحركاته. كما كان " جدانوف" مبرراً كل شيء لستالين باسم " الواقعية الاشتراكية " بما فيه ملاحقة المثقفين، وكان اندريه مارلو قريباً من شارل ديغول، مثلما كان محمد حسنين هيكل لصيقاً بجمال عبد الناصر، وكان الكاتب حسن العلوي قد ساهم في تهيئة الأجواء عشية تسلّم صدام حسين قيادة الحزب والدولة في أواخر السبعينيات، وذلك خلال مرافقته في رحلته المثيرة مع صدام الى جنوب العراق والتي اعطاها عنواناً " مئة ساعة مع السيد النائب" ونشرها في مجلة ألف باء في حينها، وكما يقول عنها كانت المقابلات التي نشرها بمثابة برنامج سياسي للسيد النائب، على الرغم من أن طموح صدام حسين كان أكبر بكثير وهو الأمر الذي إلتقطه أمير اسكندر حين أصدر كتابه المثير " صدام حسين مفكرا ومناضلاً وإنساناً". والأمر ينطبق على حسني مبارك وزين العابدين بن علي والقذافي والأسد والبشير وعلي عبدالله صالح وغيرهم ولعل هذا ديدن علاقة المثقف بالحاكم.
لعل أسئلة الثقافة والسلطة تبقى مفتوحة، لأنها أسئلة الحياة وتشتبك فيها أحياناً القيم والمبادئ بالمصالح والامتيازات، الأمر الذي يحتاج الى نوع من فك الارتباط الهادئ والواضح بحيث لا نخسر المثقف، لاسيما بخسران ثقافته التي تبدأ من حريته في الفكر والإبداع والجمال والخيال!
() باحث حقوقي عراقي

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,096,091

عدد الزوار: 6,978,293

المتواجدون الآن: 73