مصر: الدولة - الأمة تاريخاً وحاضراً

تاريخ الإضافة الأحد 1 حزيران 2014 - 6:45 ص    عدد الزيارات 221    التعليقات 0

        

مصر: الدولة - الأمة تاريخاً وحاضراً

 ناصر الرباط

 

ثمة عبارة دالة للديبلوماسي المصري الراحل تحسين بشير (١٩٢٥-٢٠٠٢) استخدم نصفها الصحافي الأميركي-اللبناني تشارلز غلاس عنواناً لواحد من كتبه: «مصر هي الدولة-الأمة الوحيدة في المنطقة، أما الباقي فقبائل بأعلام». لندع جانباً مسألة القبائل والأعلام، ولو أن فيها جزءاً كبيراً من الصحة الذي تبدو مساوئه واضحة اليوم للأسف على امتداد العالم العربي، ولنركز على سؤال كون مصر دولة-أمة حقيقية.

 

 

لا خلاف على أن بشير في نصف عبارته كان يعكس اعتقاداً قوياً لدى النخبة المثقفة في مصر، وربما لدى عموم المصريين، بأن مصر دولة - أمة راسخة في التاريخ، وأن شعور المصريين بالانتماء الى مصر أرضاً وتراثاً وتاريخاً ومصيراً شعور ضارب في الزمن والتاريخ. بل هو شعور شبه-عضوي سابق لظهور فكرة الأمة نفسها في الفكر التنويري الأوروبي في القرن السابع عشر وانتشارها في مختلف بقاع الأرض مقيمة الأمم وراسمة الحدود.

 

 

مناقشة الوعي بوجود الأمة المصرية المفترض لدى المصريين قبل تبلور مفهوم الأمة في الفكر السياسي مسألة تحتاج الى الكثير من التمحيص والبحث.

 

 

لكن الاعتقاد بالانتماء الى مصر والتماهي معها أرضاً وناساً واضح في التراث التاريخي المصري منذ عصر الفراعنة الأول حتى اليوم، وإن كان التعبير عنه قد اتخذ في الماضي أشكالاً قد لا تتوافق والأسس النظرية لمفـــهوم الدولة - الأمة اليوم. فتوحيد شطــري مصر، الأعلى والأسفل، أو الدلتا والـــصعيد، في عصر الملك مينا حوالى عام ٣٢٠٠ ق. م لا بد من أنه نبع من إحساس بوحدة المصير بين هذين القطرين اللذين تشاركا في الاعتماد المطلق على نهر النيل.

 

 

واستمرار وحدة القطرين، أو عزوف الفراعنة عن مد مفهوم مصر أو «كيميت» (الطمي الأسود) خارج وادي النيل ودلتاه لا بد من أنه حمل في طياته إحساساً بالتمايز والاختلاف عما هو خارج مصر. وهو عكس على الأغلب أيضاً إحساساً بالانتماء والتقارب بين سكان هذا الشريط المائي الضيق والأخضر والخصب والمحاط بصحراوين هائلتين من الشرق والغرب وستة شلالات غرانيتية تقطع الملاحة في النيل جنوب أسوان وتفصل مصر عن النوبة، على عكس انفتاح دلتا النـــيل على البــحر الأبيض المـــتوسط نافذة مصر على العالم القديم.

 

 

تراكم الشعور بوحدة المصير والثقافة خلال العصر الفرعوني كله وحفر في وجدان المصريين إحساساً قوياً بالانتماء الى مصر لم تتمكن الحضارات التي غزت مصر واحتلتها في التاريخ من محوه. بل إن أكثرها مكوثاً على أرض مصر انتهت بأن تمصرت هي الأخرى أيضاً. فالبطالمة المقدونيون الذين ورثوا حكم مصر بعد الفتح الاسكندري في القرن الرابع قبل الميلاد، اقتبسوا العادات المصرية في اللباس والعمارة والرسم والنحت والديانة والتعامل مع الموت وإن كانوا قد أدخلوا على غالبيتها تأثيرات إغريقية.

 

 

كذلك فعل الرومان، سادة التناغم الحضاري في التاريخ المتوسطي كله، الذين حكموا مصر لأكثر من ستة قرون بشقيهم الروماني والبيزنطي. فهم دمجوا آلهتهم بآلهة المصريين وأخذوا عنهم أيضاً بعضاً من عاداتهم واعتقاداتهم، وفي شكل خاص المعتقدات المتعلقة بالموت والحياة الآخرة.

 

 

حتى المسيحية نفسها التي وصلت مصر من فلسطين في تاريخ مبكر وانتشرت بسرعة من أعلى الدلتا إلى أسفل الصعيد، تأقلمت مع الخصوصية المصرية وأنتجت الكنيسة القبطية، أو المصرية باللغة الإغريقية، التي تمايزت عن الكنائس الأرثوذكسية الأخرى في شرق المتوسط وعبّرت عن الـروح الخاصة للشعب المصري.

 

 

ولما جاء الإسلام على يد العرب الفاتحين في بداية القرن السابع الميلادي، ظهر وكأن روح الانتماء المصري قابلت أخيراً مروضها. فاللغة العربية سرعان ما حلّت محل اللغة الديموطيقية أو المصرية القديمة المطعّمة باليونانية التي تكلمها سواد الشعب المصري. والدين الإسلامي انتهى بأن أصبح دين الغالبية الساحقة من المصريين، وإن كانت عملية انتشاره أبطأ كثيراً في مصر مما كانته في المناطق المتاخمة من بلاد الشام وشمال أفريقيا. لكن الروح المصرية لم تختف، بل بقيت تحت السطح الثقافي الجديد لقرون قبل أن تنفذ عبره وتعود للتعبير عن نفسها وبقوة لأسباب متنوعة.

 

 

فقد لاحظ المؤرخون استمرار الكثير من العادات المنسوبة الى المصريين القدماء لدى المصريين المحدثين في المأكل والملبس والخطاب والتعامل مع الموت والإيمان بالسحر والتنجيم والطلاسم ونسبة الكثير منها إلى حكماء مصر القدماء، وإن كانت الأصول ما قبل الإسلامية قد نُسيت أو استُبدلت في المخيال الجمعي بأصول عربية وإسلامية مختلقة في بعض الأحيان.

 

 

كذلك استمرت بعض الموروثات الفرعونية في ما يتعلق بالزراعة وفيضان النيل وتشريقه ودوراته، حتى أن المزارعين ما زالوا يستعملون الأشهر القبطية. وكذلك الحال في بعض الأعياد المتعلقة بالنيل والخصب والتي استمرت من أيام الفراعنة، وإن كان بعضها قد اكتسب صبغة مسيحية خلال العهد القبطي، مثل يوم النوروز وعيد البشارة وعيد الشهيد وعيد الغطاس وغيرها. أما في ما يتعلق بالمأكل فهناك الكثير من المأكولات المصرية التي تعود بجذورها إلى أيام الفراعنة والتي ما زالت تميز المطبخ المصري حتى اليوم مثل الملوخية والقلقاس والمش والفسيخ.

 

 

والحال نفسه في بعض العبارات الرائجة والكلمات المستخدمة باللهجة العامية المصرية والتي تعود أيضاً إلى أصول فرعونية نُسيت ولم تُستعد إلا مع نمو علم المصريات وفك ألغاز اللغة المصرية في القرن التاسع عشر، مما ظهرت آثاره أيضاً على التعبير الفني والأدبي المصري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

 

 

عاد الاهتمام بالهوية المصرية بشكل واضح في نهاية القرن العشرين بعد تراجع الاندفاعة العروبية لثورة ١٩٥٢ في عهدي الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، وصعود نوع مجاهر من التعبير يركز على خصوصية مصر ومختلفٍ تمام الاختلاف عن الثقافة التي أينعت في عهد جمال عبدالناصر ذات النفس القومي العربي الذي يفتش عن امتدادات لمصر خارج حدودها وفي محيطها العربي. هذا الانكفاء السياسي، كما أظن، أثر في نظرة المثقفين والأدباء المصريين الى العالم من حولهم، وجعل إنتاجهم يركز تركيزاً خاصاً على مصر مرده في الغالب إلى تضافر الشعور بالانتماء الى مصر والإحساس بالغبن المنسوب الى تخلي محيطها الإقليمي والعربي والإسلامي عنها.

 

 

أما التركيز الواضح بعد ثورة يناير ٢٠١١ على الوطني والمحلي والاهتمام بتفاصيل الحوادث اليومية في البلد، ففي بعضه مفاخرة بعظمة البلد وتاريخه، وفي بعضه الآخر مدافعة عن تهجم غير المصريين على مصر، وبعضه الأهم وعي تاريخي أبداه من لاحظ منهم تراجع دور مصر في أحداث المنطقة واستقرارها، وبعضه الأقل وضوحاً لا يعدو كونه انغماساً في الآني كرد فعل متمركز بين الوعي واللاوعي لما آلت إليه أمور البلاد والعباد بما له من انعكاس على حياة وموارد رزق ونظرة المصريين الى أنفسهم وطبقتهم الحاكمة ودورها في حياة البلاد ودوران اقتصادها ودوام عمرانها.

 

 

فكيف سيتطور هذا الفهم الواقعي والعملي، بل النقدي أحياناً، مع مجيء نظام جديد يبدو أنه يعتزم إعادة لبس عباءة عبدالناصر ويغازل الخليج وغيره بالإصرار على تلازم الأمن المصري مع أمن المنطقة العربـــية برمتــها وتــرابط استـقــرارها ونمــوها مع اسـتقــرار مصر ونموها؟

 

 

 

 

 

 

* كاتب سوري ومدير برنامج «الآغا خان للعمارة الإسلامية»، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

 

 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,044,640

عدد الزوار: 6,976,602

المتواجدون الآن: 77