مشروع موازنة غير مسؤول وسياسة اقتصادية كارثية

تاريخ الإضافة الإثنين 1 تشرين الأول 2012 - 6:56 ص    عدد الزيارات 752    التعليقات 0

        

 
مازن سويد

مشروع موازنة غير مسؤول وسياسة اقتصادية كارثية

 

مشكلتنا الأساسية مع مشروع موازنة العام 2012 التي قدمتها الحكومة، وكذلك مع سياسة الحكومة الاقتصادية، ان الأمور باتت تمسّ، لا بل تتعرض، وللمرة الأولى منذ أكثر من عقد، إلى الأركان الأساسية التي يقوم عليها الأمن الاقتصادي للمواطن اللبناني.

هذه الاركان يمكن لغرض هذا المقال اختصارها في ثلاثة هي: الركن المالي والركن الاجتماعي والركن النقدي.

 

أولاً: الركن المالي

لقد تعرض الركن المالي للأمن الاقتصادي للمواطن لتشوهات عديدة مع مجيء هذه الحكومة التي تغاضت عن إعداد مشروع موازنة العام 2011. وهي قد استمرت في الانفاق على أساس سلف خزينة وذلك بالنسبة للعامين 2011 و2012، وصولاً إلى أنها بادرت متأخرة إلى إعداد مشروع موازنة مبتورة ومشوهة للعام 2012، التي كما تشير كل الدلائل، ستؤدي هي أو الاعتمادات الإضافية التي نظرت فيها الهيئة العامة لمجلس النواب إلى زيادة كبيرة في العجز وبالتالي إلى زيادة كبيرة في المديونية العامة ومن ثم إلى خنق الحركة الاقتصادية. وهي التي تدنت بشكل ملحوظ من معدل نمو فاق 8.5% خلال فترة 2007- 2010 إلى نمو 1.5% في العام 2011 وإلى ما دون ذلك في العام 2012. هذا ناهيك عن كون مشروع الموازنة وكما تم تقديمه يؤكد على غياب عاملي الشمولية والشفافية في كثير من الأمور التي ينبغي على مشروع الموازنة أن يحترمها.

 

ثانياً: الركن الاجتماعي

وهو يكاد يكون الركن الغائب وبشكل شبه تام عن سياسة هذه الحكومة واهتمامها لا بل على العكس من ذلك، فهو الركن الذي يبدو أنه يتعرض إلى تدهور مطرد بسبب حالة التراجع الكبير الذي تعاني منه القطاعات الاقتصادية المنتجة، الأمر الذي يزيد من حدة  البطالة ومستويات الفقر، والتي تساهم فيها السياسة التضخمية التي تنحوها الحكومة بنتيجة أدائها وسياساتها التي تفاقم وبوتيرة متزايدة معدلات التضخم في الاقتصاد. وهو يحصل بالرغم من التباطؤ الكبير الذي تعاني منه الحركة الاقتصادية بما ينجم عنه من وجود طاقة احتياطية مهمة غير مستعملة في الاقتصاد (Excess Capacity). وهذه كلها من العوامل التي تدخل الاقتصاد في حالة ما يسمى (Stagflation) وهي الأسوأ حيث أنها تضعف قدرة المواطن الشرائية من دون أن تزيد من الموارد المتاحة له بسبب ضعف الحركة الاقتصادية والإنتاجية.
ومن المعروف أنه قد جرى التداول بهذين الأمرين في أكثر من مكان ومجال. لكن الجانب الأخطر منها هو التهديد المباشر الذي أضحت تشكله سياسة الحكومة الاقتصادية على الركن الثالث من هذه المعادلة وهو الركن النقدي. وهو الركن الذي لطالما شكل حجر الزاوية في النظام الاقتصادي اللبناني ولاسيما منذ نهاية العام 1992 والذي كان استقراره يشكل مناعة وحماية لهذا النظام عند أي اختلال في الركنين الآخرين.

 

ثالثاً: الركن النقدي

من المتعارف عليه أن السياسة النقدية التي تسعى إلى استقرار سعر الصرف تعتمد على جعل الاقتصاد قادراً على تحقيق فائض مستمر في ميزان المدفوعات.
من جانب آخر، فإنه من المعروف أن قيمة الاستيراد في لبنان مرتفعة. ويعود السبب في ذلك إلى أن حجم الاستهلاك فيه يفوق حجم الإنتاج. وبالتالي فإنه ولكي يحقق ميزان المدفوعات في لبنان فائضاً في ظل عجز مزمن في الميزان التجاري، فإنه يتوجب أن يكون مجموع التحويلات للنظام المالي والمصرفي اللبناني، كما الاستثمار الخارجي المباشر فيه يفوق مجموع العجز في الميزان التجاري. والحقيقة أنه كان يتوافر لدى جميع الحكومات اللبنانية المتعاقبة، حرص دائم، على تحقيق مثل هذا الفائض منذ العام 2001 وحتى العام 2010، وبالأخص منذ أن نجحت حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في مؤتمر باريس-II وبعده حكومة الرئيس السنيورة في مؤتمر باريس-III في تأمين دعم استثنائي اقتصادي ومالي، ولاسيما في ضوء السياسات الاقتصادية والمالية التي اعتمدتها تلك الحكومات والتي أوحت بالثقة وعززت من تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة والورقية وكذلك في زيادة حجم التحويلات المالية إلى لبنان وساهمت جميعها بالتالي في تحقيق فوائض مهمة ومتزايدة في ميزان المدفوعات.
غير أنه ومنذ العام 2011 بدأ يحصل تغير كبير في هذا المجال حيث تحوّل الفائض في ميزان المدفوعات الذي قارب مجموعه 8 مليارات دولار. في العام 2009 وتجاوز 3 مليارات دولار في العام 2010 إلى عجز بلغ مجموعه ملياري دولار في العام 2011 وهو الأمر المرشح للاستمرار بل للتفاقم في العام 2012، وهو ما تدل عليه المؤشرات المحققة حتى شهر حزيران من العام 2012، حيث تضاعف العجز في ميزان المدفوعات في النصف الأول من هذا العام بالمقارنة مع العجز المحقق في النصف الأول من العام الفائت، أي من حوالى 480 مليون دولار إلى ما يفوق المليار دولار! ومن الواضح أن هذا العجز المتزايد في ميزان المدفوعات يعود من جهة أولى إلى الزيادة المتسارعة في قيمة الاستيراد وبالتالي الزيادة الكبيرة المحققة في مجموع العجز التجاري، وكذلك إلى التباطؤ الواضح في تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة والتباطؤ في وتيرة التحويلات المالية من جهة أخرى.
ولقد عزا عدد من الاقتصاديين أسباب زيادة  قيمة الاستيراد إلى حجم زيادة التهريب للبضائع من لبنان إلى سوريا في ظل الحصار المفروض على سوريا وقد يكون في ذلك بعض من الصحة ولكنه حتماً لا يفسر هذه الزيادة الكبيرة في قيمة المستوردات.
في هذا الصدد، وفي دراسة معمقة للمستوردات ومكوناتها نجد أن ظاهرة التهريب إلى سوريا لا تفسر وحدها ما قد حصل بل هي لا تشكل في الواقع العامل الأهم في زيادة قيمة وحجم المستوردات ويتبين ذلك في ما يأتي:
ففي الأشهر الستة الأولى من العام 2012، بلغت نسبة زيادة حجم استيراد (Volume of imports) المواد الغذائية والأدوية وغيرها من المستوردات الأخرى التي من الممكن تهريبها حوالى 7% وذلك مقابل زيادة 40% في حجم استيراد المشتقات النفطية.
إن هذه الزيادة الضخمة في حجم المستوردات النفطية تفسرها عادة زيادة موازية في مستويات الاستهلاك. بينما في الواقع يتبين أن تباطؤ الحركة الاقتصادية وكذلك تباطؤ الحركة الإنتاجية (وهو ما يظهره بوضوح النمو السلبي لاستيراد المعدات الصناعية) لا يدل على زيادة في حجم استهلاك المشتقات النفطية.
والسؤال البديهي هنا: كيف يمكن استيراد مادة أساسية كالمشتقات النفطية، أن يزيد بنسبة 40% (in real terms) من دون زيادة مماثلة في حجم الاستهلاك المحلي؟ والجواب على ذلك يكمن في حقيقة أساسية وهي أن هذه الزيادة أتت لتغطي جزءا من الاستهلاك المحلي لتلك المشتقات النفطية الذي كانت تتم تلبيته في الواقع من مصادر أخرى، كتهريب تلك المشتقات من سوريا إلى لبنان ولاسيما حين كانت تلك المشتقات النفطية مدعومة من الدولة السورية مما كان يسمح بل يشجع على تهريبها إلى لبنان بسبب فروقات الأسعار الكبيرة.
ماذا يعني كل هذا؟
يعني هذا أن ما نشهده من ارتفاع في فاتورة الاستيراد ولاسيما للمشتقات النفطية ليس تضخيماً لها، بل هو في الواقع تصحيحاً لها. والفرق كبير إذا يعني أن هذه الزيادة ستستمر لأنها تعكس الآن الحاجة الحقيقية لحجم سوق استهلاك المشتقات النفطية في لبنان.
طبعاً يحدث هذا في وقت أدى التفلت الأمني وغياب الرؤية والقدرة على المعالجة، فضلاً عن الاستشراء في الممارسات الاقتصادية والمالية الخاطئة لدى هذه الحكومة، إلى تدني المصادر التي لطالما اعتمد عليها لبنان لتعويض عجزه المزمن في الميزان التجاري ومنها تراجع حجم الاستثمار الخارجي المباشر الذي انخفض من حوالى 4.5 مليارات دولار في كل من العامين   2009و2010 إلى 3 مليارات في العام 2011 وهذا الأمر، وعلى ما يبدو، مرشح للتدني المستمر في العام 2012 بسبب استمرار تلك السياسات والممارسات الخاطئة.
أما التحويلات المالية فهي أيضاً قد تدنت مبالغها وكذلك الودائع لدى المصارف التي لم تحقق زيادة تتعدى معدل الفائدة في النصف الأول في العام 2012. وهذا الأمر أيضاً مرشح وعلى ما يبدو للاستمرار في ضوء ما يواجهه القطاع المصرفي اللبناني من ضغوط دولية بسبب تداعيات في ظل الحصار المفروض على كل من سوريا وإيران والمسائل المتعلقة بالتدقيق وما يعود إلى ذلك من أمور.
يعني ذلك أن ما نشهده هو ويا للأسف لا يشكل في حقيقة الأمر تدنياً وعجزاً مؤقتاً في ميزان المدفوعات بل هو وعلى ما يبدو انعكاس لعوامل عديدة منها محلي والآخر خارجي، وهي على ما يبدو مرشحة للاستمرار وقد تؤدي إلى احداث تصحيح في هذا الميزان.
طبعاً في بلدٍ كلبنان، يعتمد على استقرار سعر الصرف للمحافظة على القدرة الشرائية والأمن الاقتصادي للمواطن، فإن هذا الأمر تجب مراقبته ومتابعة العوامل المؤثرة فيه بدقة متناهية. وبناء على ذلك، فإنّ هذا التصحيح الكبير الحاصل في القطاع الخارجي في ما خص لبنان يجب أن يستدعي من الحكومة اللبنانية إعادة النظر في السياسة المالية والعمل على تصويبها نحو الحد من ارتدادات هذا التصحيح على الاستقرار النقدي وذلك من خلال العمل بجدية مطلقة على امتصاص الضغوط على ميزان المدفوعات عبر تحقيق فائض كبير ومستمر في الميزان الأولي في الموازنة وخفض نسبة العجز إلى الناتج المحلي.
الخطير في هذا كله، أن هذه الحكومة، وبعد أن أدى ضعفها وعدم قدرتها على خلق بيئة مؤاتية للاستثماروبالتالي إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات من خلال انخفاض التحويلات والاستثمارات الخارجية، نراها اليوم تتبع، عن معرفة أو عن جهل والله أعلم،سياسة مالية واقتصادية غير رصينة وغير متبصرة من خلال مشروع الموازنة ومن خلال الزيادات الكبيرة المرتقبة في السلسة المقترحة للرواتب تؤدي جميعها إلى مضاعفة هذا الضغط وبالتالي إلى نشوء حالة توأم العجز، أي عجز ميزان المدفوعات وعجز الموازنة بما في ذلك العجز في الميزان الأولي واستمرارها، وهو ما يهدد الاستقرار النقدي والمالي ويمس مباشرة بالأمن الاقتصادي للمواطن.
وهذا كله يحصل دون أن يترافق وعلى الإطلاق بأي مسعى جدي لزيادة الإنتاجية أو تحسين مستويات الثقة في الأمن أو في سلطة الدولة وهيبتها.
إن الزلزال الكبير الذي تشهده سوريا اليوم نشعر اليوم بارتداداته في لبنان على جميع الصعد: السياسية والأمنية والاقتصادية ولذلك تأثيرات عميقة وبعيدة الأثر.
وبينما تزعم هذه الحكومة بأنها تنأى بنفسها عن كل ما يتأتى عن هذه الارتدادات السياسية والأمنية، نجدها في الحقيقة ومن خلال سياساتها وتصرفاتها تؤدي إلى زيادة وتفاقم تلك التداعيات الاقتصادية والنقدية وتزيد من انكشاف لبنان واقتصاده وماليته العامة واستقراره النقدي تجاهها وذلك بدلاً من أن تعمل على معالجتها وحصر انعكاساتها.
إن الضرر الكبير الذي تتسبب به هذه الحكومة على الوضعين الاقتصادي والنقدي بسبب الأخطاء السياسية والاقتصادية والأمنية الخطيرة التي ارتكبتها، أصبح عميقاً وداهماً ودائماً أيضاً ويهدد بانعكاسات خطيرة على الأمن الاقتصادي للمواطن إذا لم يتم السعي الفوري لتداركه وبحزم وبسرعة.
فهل تدرك الحكومة ما تقترفه من هذه الأخطاء الجسيمة؟وهل ستتعظ مما يحصل وهل لها أن تتعظ من دروس الماضي الأليمة؟ وهل تتدارك كل التداعيات الخطيرة قبل خراب البصرة؟
 

كاتب اقتصادي

 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,467,734

عدد الزوار: 6,951,845

المتواجدون الآن: 73