إلى أين تأخذنا لعبة الأمم؟ 2/2

تاريخ الإضافة الجمعة 30 آذار 2012 - 7:14 ص    عدد الزيارات 872    التعليقات 0

        

 

إلى أين تأخذنا لعبة الأمم؟ 2/2
ليس ثمة ما يثير الدهشة حين تسعى الإمبراطوريات الكبرى إلى تأمين مصالحها وتعزيز نفوذها ومواصلة هيمنتها وشحذ قواها في مواجهة منافسيها الحاليّين وأعدائها المحتملين. ومن المؤكد أن تحقيق مثل هذه الأهداف أمر لا مكان فيه لاعتبارات الصداقة أو العواطف أو الأخلاقيات بل إنه يتطلّب إعداد خطط للحاضر ورسم سيناريوهات للمستقبل واللجوء أحياناً للمؤامرات التي هي جزء من قواعد هذه اللعبة الكبرى المسماة بلعبة الأمم. هذه حقائق تاريخية لا يجدي إنكارها وإلا لكان علينا أن نأخذ دروساً إجبارية في قراءة التاريخ. ومن الطبيعي أن أميركا وغيرها من القوى العظمى لا تشذّ عن هذا الناموس التاريخي وإلا لما ظلّت قوى عظمى.
جزء من الفصل الجديد في لعبة الأمم الدائرة الآن هو التوظيف السياسي للظاهرة الدينية في المنطقة العربية واللعب على أوتار التنوّع الديني والطائفي والعرقي فيها واستغلال مناخ الإسلاموفوبيا لتمرير سيناريوهات وخطط لتقسيم المنطقة وإعادة رسم جغرافيتها السياسية والعبث بمقدراتها لكي تبقى اليد الطولى دائماً للقوى الآتية من وراء البحار وعبر المحيطات! والقوى الغربية حين تقوم بذلك لا تناقض تجارب التاريخ بل تؤكّدها وتمضي على سننها، وإذا كان لأحد آخر مشكلة مع التاريخ فهو نحن بكلّ تأكيد!! لأن الذي لا يستفيد من تجارب الماضي لا بدّ أن يكتوي بالحاضر.
وابتداءً فنحن لا نخلط بين الحضارة الغربية والسياسة الغربية تماماً مثلما لا نخلط بين اليهودية والصهيونية. فلا يمكن أن ننكر أن الحضارة الغربية الحديثة قد أسهمت في النصيب الأكبر في تحرر الإنسان وتحرير طاقاته وقدّمت للبشرية أعظم منجزاتها في الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتكريس المواطنة واحترام الكرامة الآدمية.هذا بخلاف تقدّمها العلمي والتكنولوجي المذهل، والذي ننعم نحن بثماره وأدواته من دون أن نبذل مجهوداً سوى دفع الثمن! بل إن الحضارة الغربية المعاصرة، وفي القلب منها الولايات المتّحدة الأميركية، قد فتحت ذراعيها بلا تمييز أو تفرقة لملايين المحرومين والمحبطين والمضطهدين الحالمين بعالم جديد يمنحهم الكرامة والفرصة والأمل وكثير من هؤلاء كانوا عرباً ومسلمين. لكن أزمة الحضارة الغربية أنها أصبحت تعاني من الانفصام والتناقض بين الحفاظ على منظومتها القيميّة المرتكزة على مبادئ الحرية والكرامة الآدمية والمساواة وحقوق الإنسان، وسعيها المحموم لفرض هيمنتها الحضارية وتفوّقها الاستراتيجي والاقتصادي والعسكري ولو أدّى ذلك الى قتل الملايين في العراق وأفغانستان.
وفي ظلّ الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي كان التوفيق ممكناً بين قيم الحضارة الغربية وطموحات السياسة الغربية. فقد كان الغرب يعادي النظم الشيوعية من واقع اعتبارها نظماً قمعية شمولية تنتهك حقوق الإنسان وحرياته، أما وقد انهار النظام الشيوعي وتفكك المعسكر الشرقي فقد أسقط في يد الغرب فجأة؛ إذ كيف تتواصل خطط الهيمنة والسيطرة وتزدهر صناعة السلاح وتجييش الجيوش وقد زالت امبراطورية الشرّ كما كان رونالد ريغان يسمّي الاتحاد السوفييتي في ثمانينيّات القرن الماضي؟ هكذا أصبح وجود عدوّ ما واصطناعه واختلاقه إذا لزم الأمر ضرورة للعقيدة العسكرية الغربية، وهي عقيدة لا بدّ أنها تأنف إن لم تكن تسخر من قيم الحضارة الغربية حول حقوق الإنسان وما حدث في سجن «أبو غريب» في العراق ما زال ماثلاً في الأذهان. وبما أن الخطر الشيوعي قد زال فلا بدّ من اصطناع خطر جديد.. فالعقائد العسكرية لا تنتعش من دون الشعور بوجود خطر ما.
كان لدى الغرب إذاً في زمن الحرب الباردة بعض الحيثيات الأخلاقية وهو يقيم التحالفات ويطلق الجيوش ويرابض عند مصادر الطاقة. فهناك من وجهة نظره ديكتاتوريات تقمع الحريات وتكبل البشر وتهدّد حضارة الإنسان لكن ما العمل وقد زالت مبرّرات الاستقواء والتحقت معظم الديكتاتوريات السابقة بركب الديموقراطية الغربية؟ كان المنطق ذاته والمعيار نفسه يوجبان على الحكومات الغربية أن تهتم بانتهاكات حقوق الإنسان في مناطق أخرى من العالم لكن هنا تستيقظ غرائز الأنانية ويلوح الانفصام ويتجلّى التناقض في السلوك الغربي. فالغرب يدرك يقيناً أن تكرار تجربة الضغط على دول المعسكر الشرقي في المنطقة العربية إنما يتعارض بالضرورة مع مصالحه الاستراتيجية مثل التزامه بأمن إسرائيل وتأمين مصادر الطاقة والحفاظ على الأسواق الواسعة الشرهة لمنتجات الغرب. هنا مرّة أخرى تتجلّى إشكالية الغرب الحائر بين القيم والمصالح.
لم يكن الأمر يحتاج لفطنة كبيرة لإدراك المأزق الذي تواجهه الحضارة الغربية وهو المأزق الذي أنتج تيارين متباينين من الوعي الغربي: تيار أول ينتصر لقيم الحضارة الغربية ويدافع عن حقّ الشعوب والمجتمعات الأخرى في الحرية والديموقراطية والكرامة وحقوق الإنسان. لكن هذا التيار الذي يجسد ضمير الحضارة الغربية ما زال يمثل أقلية ويفتقر لأدوات التأثير ووسائل الحركة ولا يضمّ سوى بعض تيارات المثقفين الأحرار والأكاديميّين المستقلّين وجمعيات حقوقية. أما التيار الثاني فهو المروّج لثقافة الصراع. ولعلّ من يقرأ كتابيّ الباحث وعضو الكونغرس الأميركي لمدّة اثنتين وعشرين سنة بول فندلي «من يجرؤ على الكلام» و«الخداع»، يكتشف على الفور الحصار المنظّم الذي تفرضه جماعات الضغط الإسرائيلية وغيرها على ممثّلي التيار الأول، حتى على صعيد ممارسة الحريات الإعلامية والأكاديمية، في كشف حقيقة ما يجري في منطقة الشرق الأوسط.
ولهذا فإن التيار الثاني يبدو اليوم الأكثر عدداً وعدّة في العالم الغربي وقد بدأ في الظهور بقوّة في أواخر الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون. ولئن كنّا نعرف الرموز المعلنة لهذا التيار اليميني الجديد مثل جورج بوش الأب وديك تشيني ودونالد رامزفيلد والرئيس السابق للبنك الدولي وولففيتز وامتدادات هذا التيار اليميني المتطرّف في أوروبا الغربية وإسرائيل فإننا لا نعرف على وجه التحديد من هي رموزه غير المعلنة ولا القوى الخفيّة التي تحرّك أحداثه من وراء الستار. لكن قدراً من المنطق يجعلنا نفترض أن هناك أطرافاً شتّى تتوافق مصالحها (والتوافق درجة أدنى من الاتفاق) حول ضرورة اصطناع حالة من العداء الديني والصراع الثقافي والنفخ الماكر الدؤوب في ظاهرة الإسلاموفوبيا. وفي هذا المناخ المثالي تتحقّق مصالح إسرائيل وشركات صناعة السلاح الكبرى واليمينيّين الجدد أصحاب الرؤى التوراتية القديمة وأنصار الأيديولوجيات الهجينة المسيحية اليهودية.
وأياً كان الرأي حول فرقاء هذا التيار اليميني المحافظ فهو يؤمن أنه ليس من مصلحة أميركا ولا عموم الحضارة الغربية نجاح عملية التحوّل الديموقراطي في المجتمعات العربية والإسلامية. ولا يتردّد بعض الباحثين الغربيّين من الجهر بذلك علناً في كتاباتهم. أما الساسة الغربيّون فلعلّهم يقولون هذا سراً. وهكذا لم يكن غريباً أن يكتب صمويل هينيغتون أن المجتمعات العربية والإسلامية تأخذ من القيم الحضارية الغربية وسيلة للانقلاب على الغرب، وأن أيّ انتخابات ديموقراطية في مجتمع عربي أو إسلامي ستفرز بالضرورة قوى وأنظمة إسلامية أو قومية تعادي الغرب وتهدّد مصالحه.
مؤسسة الفكر العربي

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,811,890

عدد الزوار: 6,967,198

المتواجدون الآن: 69