المنطقة المتغيرة: تقييم مرحلي لـ "الربيع العربي" وتداعياته السياسية

تاريخ الإضافة السبت 5 كانون الثاني 2013 - 7:32 ص    عدد الزيارات 740    التعليقات 0

        

 

المنطقة المتغيرة: تقييم مرحلي لـ "الربيع العربي" وتداعياته السياسية
مايكل هيرتسوغ
التأثيرات الرئيسية لـ "الربيع العربي"
تمكين الشارع العربي
للمرة الأولى منذ عقود، عبّرت الشعوب العربية عن نفسها وكسرت حواجز الخوف وصنعت الفارق. فقد اجتمع الشارع العربي - بشكل عفوي وتلقائي وكونه ممزق - للمطالبة بالكرامة والحقوق، ومن غير المحتمل أن يتنازل عن شعوره الجديد بالتمكين. وقد زاد هذا الأمر من حالة عدم الاستقرار في بعض البلدان، إلا أنه يجعل أيضاً من الصعب على أي قيادة - إسلامية كانت أو غيرها - أن تقيم دكتاتورية أخرى.
وتشكل هذه الظاهرة تحدياً لبريطانيا وقوى غربية أخرى، ولإسرائيل أيضاً بسبب تنامي المشاعر المعادية للدولة اليهودية والغرب في أوساط الشعوب العربية على مدى عقود. وقد بات أيضاً من السهل نسبياً استثارة هذه الشعوب بالشكل الذي رأيناه في الاحتجاجات العنيفة الأخيرة ضد الفيلم غير المسؤول الذي تم بثه على "اليوتيوب" والذي أساء للنبي محمد. كما أظهرت هذه الاحتجاجات أن هناك فجوة ثقافية بين المجتمعات الغربية الليبرالية ونظيراتها الشرق أوسطية التقليدية حول ماهية الأمور التي تعد جريمة لا تغتفر وكيفية التعاطي معها. ونادراً ما فتح كل من الغرب وإسرائيل أي حوار علني مع العالم العربي ويحتاج كل منهما إلى استحداث الوسائل للقيام بذلك.
صعود الإسلام السياسي
تتركز أهم الأسئلة التي تتعلق بصعود الإسلام السياسي على ما يلي: هل يستطيع الإسلاميون تبني وتأسيس القيم الديمقراطية وقواعد اللعبة ؟ هل سيتخلى هؤلاء عن سدة الحكم إذا لم يتم اختيارهم عبر صناديق الاقتراع؟ هل سيترجمون أيديولوجياتهم إلى سياسات سلبية تجاه الغرب؟ وما هو حجم التأثير الذي سيحدثونه على إسرائيل؟
لا يمكن الآن الإجابة على جميع هذه الأسئلة ولكن هناك بعض الإشارات غير المبشّرة خاصة في مصر - أكثر البلدان العربية أهمية. فعلى الرغم من وجود درجة كبيرة من الانفتاح والشمولية في العملية الديمقراطية في مصر منذ الثورة، إلا أن هناك أيضاً توجهات مقلقة معادية لليبرالية وانعدام الاكتراث بحقوق الإنسان. فعلى غرار ما قامت بفعله الحكومة المشكلة من "حزب العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا المنتمي إلى التيار الإسلامي المعتدل، يحاول النظام المصري أيضاً السيطرة تدريجياً على مراكز القوى الرئيسية - وهي الجيش والإعلام والقضاء - لترسيخ نفوذه لسنوات قادمة. فقد أظهر هذا النظام نسبياً عدم تقبله للانتقادات الموجهة إليه ولجأ إلى استخدام أساليب من بينها الرقابة [على الصحف ووسائل الإعلام] واعتقال الصحفيين والضغط على رؤساء التحرير.
وأكبر مثالاً على ذلك هو الدستور المصري الجديد [الذي وقّع الرئيس المصري محمد مرسي على مرسوم إنفاذه، بعد ظهور نتائج الاستفتاء والموافقة عليه]. فهذا الدستور يحتوي، على سبيل المثال، على بعض النصوص الإيجابية الخاصة بحقوق المرأة. ومع ذلك، فقد اشتُرط في هذا التنازل عدم تعارضه مع الشريعة الإسلامية. كما أنه يحتوي على مصطلحات مبهمة أثارت الكثير من الجدل حول كيفية ضمان حرية الصحافة وتجريم الإساءات الموجهة للذات الإلهية أو النبي.
وبالنسبة لسياسة مصر الخارجية وعلاقاتها مع إسرائيل، لا يزال هناك الكثير الذي لم يتضح حتى الآن. فعلى الرغم من أن مصر في عهد الرئيس محمد مرسي حريصة على الحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة وعلى المساعدات الأمريكية الأساسية واستمرار التزام مرسي باتفاقية السلام التي أبرمتها بلاده مع إسرائيل، إلا أن هناك بعض التباعد من الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، يمتنع الرئيس مرسي عن ذكر كلمة "إسرائيل" ولم يتحدث حتى الآن مع مسؤولين إسرائيليين. إن هذه الشكوك العميقة حول توجه مصر الاستراتيجي في المستقبل هو الذي حمل الرئيس أوباما - في مقابلة تلفزيونية في أيلول/سبتمبر - على التساؤل علناً حول ما إذا كانت مصر لا تزال حليفاً للولايات المتحدة أم لا.
ظهور السلفيين والجهاديين المتشددين
لم تقتصر الاضطرابات الإقليمية على إطلاق العنان للمنظمات الإسلامية من التيار السائد مثل جماعة «الإخوان المسلمين» فحسب - حيث أتاحت لهم الانتقال من المعارضة المضطهدة إلى سدة الحكم - بل أطلقت العنان أيضاً لنسخ أكثر تطرفاً من الحركات الإسلامية. فقد دخلت حركات سلفية أيديولوجية - التي تتبنى إلى حد كبير تفسيرات متزمتة وأصولية للدين الإسلامي - الحياة السياسية للمرة الأولى مثل "حزب النور" و "الأصالة" اللذين فازا بنسبة 25% من مقاعد البرلمان في مصر. كما انتهزت الجماعات الجهادية المسلحة - المتحالفة أيديولوجياً مع تنظيم «القاعدة» أو المنضوية معه تنظيمياً - الفرصة في هذه الأوضاع وأظهرت عودة مجددة لافتة للنظر. ويشكل كلا النوعين تحدياً خطيراً للحكومات والإسلاميين من التيار السائد. وتستغل هذه الجماعات المظالم المحلية والحريات الجديدة وحالة عدم الاستقرار وضعف الحكومات المركزية.
وفي سوريا، تلعب الجماعات الجهادية المتشددة - وأبرزها "جبهة النُصرة" - دوراً كبيراً بشكل متزايد في الثورة. كما تتشكل جماعات جهادية عالمية بشكل سريع جداً في شمال أفريقيا. ويُعتقد أن إحدى هذه الجماعات الجهادية المتشددة مسؤولة عن الهجوم الأخير الذي استهدف البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بنغازي والتي أدت إلى مقتل السفير الأمريكي، في الوقت الذي داهمت فيه جماعة جهادية أخرى السفارة الأمريكية في تونس. كما عملت الجماعات الجهادية المسلحة على توطين نفسها في شبه جزيرة سيناء ومضاعفة أعدادها في قطاع غزة. وتتعاون هذه الجماعات تعاوناً وثيقاً مع بعضها البعض لشن هجمات إرهابية ضد إسرائيل متحدية كلاً من الحكومة المصرية وحكومة «حماس» في غزة.
وقد أحبطت الأردن مؤخراً مؤامرة من قبل تنظيم «القاعدة» لتنفيذ هجمات إرهابية على أراضيها. كما أن تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» أصبح نشطاً للغاية خاصة في اليمن، في حين أن معاودة ظهور تنظيم «القاعدة في العراق» قد أدى إلى تضاعف هجماته الأسبوعية تقريباً منذ بداية هذا العام. وقد ساعدت الأسلحة التي تم الاستيلاء عليها من المخازن الكبيرة غير المؤمنة في ليبيا ما بعد الحرب، بما في ذلك أنظمة متطورة، على تسليح خلايا «القاعدة» في العديد من هذه الأماكن.
تشدد خطوط الصدع الطائفية
لقد أزكى "الربيع العربي" نار التصدعات الطائفية والعرقية والدينية والقبلية القائمة، وعلى رأسها الصراع بين السنة والشيعة. وقد أخذت الأزمة في سوريا شكل الحرب الأهلية بين النظام السوري الذي أغلبه من العلويين [يُعتبر العلويون شكلاً مختلفاً للمذهب الشيعي ويعتبرهم العديد من الدوائر السنية زنادقة] والأغلبية السنية. كما تتصاعد أيضاً التوترات بين السنة والشيعة في لبنان بسبب الدعم النشط الذي يقدمه «حزب الله» الشيعي لنظام بشار الأسد في سوريا.
وفي البحرين، قادت الأغلبية الشيعية احتجاجات داخلية ضد الحكومة المليكة السنية والتي أدت إلى تدخل عسكري من جانب المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربي. وقد شهدت السعودية بعض الاضطرابات في محافظتها الشرقية الغنية بالنفط التي تسكنها غالبية من الأقلية الشيعية. وفي اليمن، كانت انتفاضة الحوثيين التي بدأت عام 2004 ذات طبيعة طائفية قوية واتسعت بسبب تغيير النظام الذي أعقب "الربيع العربي". وفي العراق تفكر الأغلبية السنية - التي كانت بمنأى عن "الربيع العربي" - في إقامة أقاليم شبه مستقلة على غرار نموذج الأكراد العراقيين. وبنظرة أوسع، زادت الاضطرابات الإقليمية من حدة التوترات بين إيران الشيعية والقوى السنية الرئيسية والتي من بينها المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر. بالإضافة إلى ذلك، هناك توترات قوية في ليبيا المحررة، القائمة على أسس قبلية، وكذلك بين المسلمين والأقباط في مصر.
إضعاف أطر الدولة والحكومات المركزية
أدت التوترات التي أحدثتها الاضطرابات والأزمات الاقتصادية الطاحنة في البلدان غير الغنية بالنفط إلى إضعاف الحكومات المركزية واهتزاز البنى الهيكلية للدول التي أقامتها القوى الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت النتيجة هي مجموعة من الدول الممزقة والفاشلة التي لا تقوم بوظائفها. فسوريا تمزقت أوصالها جراء الحرب الأهلية وفقدت الحكومة السيطرة على جزء كبير من أراضيها. وعلى الرغم من أن النتيجة لا تزال غير مؤكدة، إلا أن السيناريو المحتمل هو دولة متشرذمة بشكل كبير وغير مركزية. وفي دول عربية أخرى، فقدت مصر سيطرتها الفعلية على معظم أراضي شبه جزيرة سيناء التي يتكاثر فيها الجهاديون ويتخذونها مأوى لهم، والحكومة الليبية ليست لديها سيطرة على جميع أنحاء البلاد، واليمن هي في الأساس دولة فاشلة والعراق تمزقها التوترات الطائفية.
والشيء الهام في هذه الظاهرة هو إيقاظ الطموحات الكردية للحكم الذاتي. فتحت ضغط التمرد، سحبت الحكومة السورية قواتها خارج المناطق الكردية في محافظة الحسكة في شمال شرقي البلاد منذ عدة أشهر. وقد سمح ذلك للأكراد المحليين بفرض سيطرتهم عليها، هذا إلى جانب إدخال الرموز الكردية التي كانت محظورة حتى الآن، وإعلان الأكراد عن نيتهم اتباع النموذج الكردي العراقي وإقامة منطقة كردية تتمتع بحكم ذاتي. وقد فسرت تركيا - التي تتعرض نفسها لهجمات عنيفة من قبل "حزب العمال الكردستاني" الانفصالي المسلح - هذا التطور على أنه رداً متعمداً من سوريا لدعمها للثوار. ويُعرف الحزب الكردي السوري الرئيسي - "حزب الاتحاد الديمقراطي" - بارتباطه بـ "حزب العمال الكردستاني". وتطالب هذه الجماعات الكردية في هذه المرحلة بالحكم الذاتي المحلي وليس بدولة مستقلة، ولكن بطبيعة الحال فإن الدول التي لديها أقلية كردية [تركيا وايران والعراق وسوريا] تبدي قلقاً من هذا الاحتمال.
التأثير السلبي على المجتمعات غير الإسلامية
يعتبر صعود الإسلاميين بمثابة ضربة موجعة لغير المسلمين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فالأقليات غير المسلمة آخذة في التضاؤل تدريجياً في الأعداد والتأثير نظراً للاضطهادات التي تواجهها والشعور بالخوف. والمثال الأبرز على ذلك هو الأقباط في مصر الذين يشكلون 10% من السكان والذين تعرضوا لهجوم من قبل عناصر إسلامية متطرفة. كما أن المجتمع المسيحي في العراق هو مثال آخر جدير بالملاحظة.
نقاط ضعف الأنظمة الناجية
أصاب "الربيع العربي" معظم الدول العربية - ولكن ليس كلها - بدرجات متفاوتة من الشدة. حيث لم يشمل "الربيع العربي" تلك البلدان التي شهدت حرباً دموية - أهلية أو غيرها - في العقود الأخيرة والتي تضررت بشدة، بالإضافة إلى الملكيات خاصة تلك الغنية بالنفط، باستثناء البحرين، وبدرجة محدودة الكويت.
وتنتمي الجزائر إلى الفئة الأولى. ويمكن احتساب لبنان أيضاً ضمن هذه المجموعة منذ فترة طويلة رغم أنها تأثرت بشكل كبير من اتساع نطاق الحرب الدائرة في سوريا المجاورة. كما أن العراق والسودان لم يشهدا أي استقرار حتى الآن بعد حروبهما التي سبقت "الربيع العربي".
وتتمتع الملكيات - بما في ذلك في دول الخليج العربي والأردن والمغرب - بدرجة أساسية من الشرعية التي لم تشاركها فيها الديكتاتوريات العسكرية في المنطقة. ويعود الفضل في ذلك إلى سلالتها الطويلة (في بعض الحالات ترجع إلى النبي محمد) والارتباط الخاص بالأماكن المقدسة الإسلامية (حيث يحمل الملك السعودي اللقب الرسمي "خادم الحرمين الشريفين" كما يحظى ملوك الأردن والمغرب بارتباط خاص بـ "قبة الصخرة" في القدس) ومظلة داعمة من المؤسسات الدينية. أضف إلى ذلك الثروات النفطية للملكيات الخليجية التي تسمح لها بإغداق المال على مجتمعاتها لاسترضائها، وتقديم بعض الدعم المالي لجيرانها الأقل منها ثروة مثل الأردن ومصر. وتتميز المغرب بنجاحها في إدخال إصلاحات سياسية سنها الملك واستطاع من خلالها استباق الأحداث عندما اندلعت ثورات "الربيع العربي".
ومع ذلك، فإن الوضع الحالي في بعض هذه الدول مصاب بالهشاشة والضعف. فالتوترات تشتد في الجزائر التي عانت من بعض الاضطرابات الاجتماعية ومن حملة إرهابية على يد تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» إلى جانب التوترات العرقية مع مجتمع البربر. وتتزايد حدة العنف في لبنان، التى تمزقها الانقسامات بين المعسكر الداعم للأسد والآخر المناهض له، كما ظهر ذلك في تشرين الأول/أكتوبر باغتيال القائد البارز في قوات الأمن الداخلي المعادي للنظام السوري في انفجار سيارة مفخخة في بيروت. وإذا تمت الإطاحة بالأسد - وهو ما سوف يحرم «حزب الله» من مصدر هام من مصادر الدعم - فقد تتحدى العناصر المناهضة لـ «حزب الله» في لبنان هذه الحركة الشيعية المسيطرة هناك. وفي المملكة العربية السعودية، قد تتصاعد الاضطرابات الشيعية في محافظتها الشرقية.
أما بالنسبة للأردن فإنها تستحق اهتماماً خاصاً. فالمملكة تشهد اضطرابات متنامية جراء الأزمة الاقتصادية الطاحنة والفساد والتطلع نحو الإصلاح. فقد تفاقمت مشاكل الأردن المالية من جراء الحرب الدائرة في سوريا والتي دفعت ما يقرب من مائتي ألف لاجئ إلى النزوح إلى الأردن وحرمت المملكة من طريق رئيسي لتجارتها الخارجية. لقد أحدثت هذه الاضطرابات الشديدة حالة استثنائية من الاحتجاجات بشملها الفلسطينيين- الأردنيين والأردنيين الذين يعيشون في الضفة الشرقية (وهذه الفئة الأخيرة كانت تمثل دائماً العمود الفقري للنظام) بغض النظر عن الاختلافات العميقة بين هاتين الجماعتين. بالإضافة إلى ذلك، دخل الجهاديون الأردنيون إلى الأراضي السورية للمشاركة في الصراع الدائر وقد تسهم عودتهم في تدهور الأوضاع بالنسبة للمملكة. ويشكل عدم الاستقرار في الأردن - الدولة التي لها توجهات مؤيدة للغرب والتي تحتل موقعاً استراتيجياً هاماً وتعتبر خطاً حدودياً طويلاً وآمناً مع إسرائيل - تحدياً خطيراً جداً للغرب وإسرائيل.
أما السلطة الفلسطينية فتمثل فئة قائمة بذاتها. ففضلاً عن أنها لا تعتبر دولة [منحت صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة] فهي أيضاً مقسمة بين كيانين: السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية التي تهيمن عليها حركة «فتح» العلمانية القومية، وسلطة «حماس» الإسلامية في غزة. وحتى الآن لم يترجم "الربيع العربي" إلى "ربيع فلسطيني" إلا أن الوضع الاقتصادي الكئيب الذي تعاني منه السلطة الفلسطينية تَسبب في اندلاع احتجاجات مؤخراً في الضفة الغربية ضد رئيس الوزراء سلام فياض والرئيس محمود عباس. وبمرور الوقت، قد تتحول هذه الاحتجاجات إلى ثورة شعبية تؤدي إلى زعزعة استقرار السلطة الفلسطينية أو يتم توجيهها ثانية ضد إسرائيل على خلفية الأزمة السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين. كما أن حصول الفلسطينيين على وضع دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة قد يسبب أزمة مع إسرائيل تكون لها تبعاتها الخطيرة على كلا الجانبين.
الديناميات الإقليمية المتغيرة
إن التصور التقليدي الذي يقسم الشرق الأوسط بين المعسكر العربي المعتدل - الذي يشمل مصر والمملكة العربية السعودية والأردن والسلطة الفلسطينية وغيرها - والذي له توجهات مؤيدة للولايات المتحدة وداعمة للسلام، وبين المحور المتطرف الذي يشمل إيران وسوريا و «حزب الله» و «حماس»، في حاجة إلى التعديل. وقد اتضح هذا جلياً خاصة في ضوء الحرب الأهلية في سوريا وصعود الإسلاميين إلى الحكم في مصر.
ولا يعتبر الصراع في سوريا حرباً أهلية فحسب بل هو أيضاً حرب بالوكالة حول ميزان القوى الإقليمية. ويكمن في جوهره مستقبل المحور الذي تقوده إيران والذي تعتبر سوريا ركناً من أركانه. وتعتبر هذه الحرب الدائرة المُقسم الأكبر للشرق الأوسط. إذ أن إيران و «حزب الله»، جنباً إلى جنب مع روسيا، تسعى بقوة لإنقاذ الأسد في الوقت الذي تصمم فيه كافة القوى السنية الرئيسية على الإطاحة به. وهذا الانقسام يدق إسفيناً عميقاً بين تركيا - التي تخلت عن سياستها القائمة على "تصفير المشاكل مع الجيران" - وإيران والعراق وروسيا. كما يدق إسفيناً بين «حماس» وإيران.
وتوصف هذه القوى السنية الكبيرة وهي مصر والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا - على الرغم من أن جميعها شركاء للغرب من بعض الجوانب الهامة - بدرجات متفاوتة من حيث الالتزام بالحركة الإسلامية المتشددة. وهذا يدفعهم إلى دعم الجماعات الإسلامية في المعارضة السورية بشكل فعال إلى جانب دعمهم لحكومة «حماس» في غزة. وفي حالة غزة، شمل هذا الدعم مبالغ ضخمة تعهدت بها قطر الذي زار أميرها مؤخراً قطاع غزة - وكان أول رئيس دولة يزور غزة التي تحكمها «حماس» - وتركيا التي من المحتمل أن يقوم رئيس وزراؤها بزيارة القطاع. إن هذا قد يحوّل «حماس» للمرة الأولى إلى نموذج أكثر نجاحاً من منافستها حركة «فتح» التي تهيمن على الضفة الغربية والتي هي الآن على شفير انهيار اقتصادي بسبب نقص المساعدات الخارجية. وتعقّد هذه الظاهرة بشكل إجمالي الخيارات السياسية المطروحة بالنسبة لبريطانيا والولايات المتحدة وقوى غربية أخرى.
وتتسبب الحرب في سوريا في زعزعة الاستقرار في العراق وذلك عبر تغذية التوترات الطائفية الحالية وإرسال عشرات الآلاف من اللاجئين عبر حدودها. كما قد تتسبب الحرب في نشوب صراع محتمل مع كل من تركيا وإسرائيل، والذي قد يترجم على أرض الواقع في حالة تزايد الاحتكاكات على حدود كل منهما مع سوريا، وفي حالة إجبار أي منهما على التدخل عسكرياً. ولقد بات من الواضح أن نتيجة الحرب في سوريا سيكون لها تأثير كبير على ميزان القوى الإقليمية. فسقوط الأسد سيكون بمثابة ضربة قوية لإيران و «حزب الله» والمحور الذي تقوده إيران بصورة إجمالية.
والشيء الذي لا يقل أهمية عن ما ذكر هو النتيجة التي ستؤول إليها المواجهة الحاسمة حول برنامج إيران النووي. فإذا نجحت إيران في تحدي المجتمع الدولي وتطوير قدرات تصنيع الأسلحة النووية، فإن ذلك سيعزز بشكل كبير من قدرتها على دعم حلفائها والعمل على زعزعة استقرار أعدائها ومن بينهم ملكيات الخليج العربي الموالية للغرب. كما سيتسبب ذلك في الدخول في سباق تسلح مع الحكومات الإسلامية السنية الأمر الذي سيزيد من زعزعة الأوضاع في الشرق الأوسط.
وقد يكون استخدام الخيار العسكري في نهاية المطاف هو الحل الوحيد لوقف البرنامج النووي الإيراني، إلا أن ذلك سيؤدي بالتأكيد إلى نشوب صراع مسلح في المنطقة.
وعلى هامش هذه الأحداث، تلعب العراق، تحت قيادة رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي، دوراً مقلقاً. ففي الوقت الذي تتلقى فيه مساعدات عسكرية أمريكية، تتعاون العراق مع إيران وتدعم الأسد سراً. كما أن بغداد أجرت مؤخراً مفاوضات مع روسيا بشأن الحصول على صفقات أسلحة هامة وربما تسمح لموسكو بأن يكون لها موطئ قدم كبير في تطوير حقولها النفطية.
وهذا أيضاً يسلط الضوء على الدور المثير للمشاكل، الذي تلعبه روسيا. فنظراً لسعيها الدؤوب لدعم وضعها الإقليمي والدولي وقلقها من صعود الإسلاميين، تتحدى روسيا باستمرار سياسات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وقوى غربية أخرى في المنطقة. ويتضح ذلك بشكل أكبر في دعمها للأسد على الرغم من أنه يذبح شعبه.
تحديات معقدة لإسرائيل
بالنسبة لإسرائيل، تعني هذه التغييرات الإقليمية أن هناك فرصاً أقل للدخول في حرب مع قوة عسكرية مجاورة مثل سوريا. ومع ذلك، هناك فرص متزايدة لوقوع أعمال استفزازية عنيفة من جانب فاعلين متطرفين من غير الدول الإسلامية، الأمر الذي قد يتسبب في حدوث تصعيد على امتداد أي من حدودها مع سوريا ولبنان وغزة وسيناء. ففي حين كانت الحدود السورية - اللبنانية هادئة إلى حد كبير حتى الآن، فإن الثوار الجهاديين يقاتلون قوات النظام بالقرب من الحدود الإسرائيلية مع سوريا وقد يتحولون لمهاجمة إسرائيل. وفي سياق متصل، هناك سيناريوهات متنوعة قد تسبب حدوث صراع مع «حزب الله»، من بينها أي محاولة لنقل الأسلحة الكيماوية السورية إلى أيدي «حزب الله» أو شن أي هجوم عسكري على إيران. كما تهدد الجماعات الجهادية في غزة وسيناء بالتصعيد على طول الحدود بين مصر وغزة وإسرائيل. ونظراً للطبيعة المتشرذمة لسوريا ولبنان في الشمال والعلاقات الإسرائيلية الحساسة مع مصر في الجنوب، فإن الرد على هذه الاستفزازات قد يشكل تحدياً خطيراً.
كما أن خروج الشارع العربي وصعود الإسلام السياسي - والذي يحفل كل منهما بمشاعر معادية لإسرائيل - قد كبل أيدي إسرائيل. وأي أزمة مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أو «حماس» في قطاع غزة قد تؤدي إلى إشعال الرأي العام العربي وتقويض علاقات إسرائيل مع مصر. علاوة على ذلك، فإن أي هجوم إسرائيلي على إيران والذي يحتمل وقوعه في عام 2013، وخاصة التصعيد الذي سيلي هذا الهجوم، قد يتسبب في علاقات عامة علنية معادية لإسرائيل بشكل قوي في المنطقة، حتى من قبل أولئك المعارضين لبرنامج إيران النووي والذين قد يغدقون الثناء على إسرائيل في الغرف المغلقة.
وتتسم العلاقات الإسرائيلية مع مصر بالهشاشة. فقد حرصت مصر في عهد الرئيس مرسي على عدم إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل لكن هناك أصوات قوية في حكومته تطالب بتعديلها. وتتركز هذه المطالب على فتح "الملحق العسكري" الذي ينص على إخلاء شبه جزيرة سيناء من أي قوات عسكرية وذلك لاستعادة كامل السيادة المصرية في سيناء وامتلاك حرية التصرف في قتالها للجهاديين هناك. وتدّعي إسرائيل أن هناك مرونة كافية في "الملحق" الحالي تسمح على نحو مؤقت بإدخال المزيد من القوات المصرية إلى سيناء. ومع ذلك، فإذا أصرت مصر على مثل هذا الطلب، فإن على إسرائيل التفكير ملياً في المزايا المحتملة من تجدد الاعتراف الرسمي بالمعاهدة من قبل حكومة يترأسها إسلاميون، بدلاً من التفكير في الضرر الناجم جراء سابقة إعادة التفاوض التي قد تجلب معها منحدر زلق.
استنتاجات وإرشادات السياسة
من الصعب جداً ابتكار سياسات في ظل هذه التغيرات الهائلة، وتنوع العوامل المؤثرة ووجود درجة عالية من عدم اليقين.
وباستثناء الإطاحة بالقذافي، لم تحظى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وقوى غربية أخرى سوى بنفوذ محدود على "الربيع العربي". وهناك إدراك إقليمي واسع النطاق بأن التأثير الغربي محدود في مواجهة التغيرات الديناميكية الخاصة بكل بلد، وإزاء خلفية الصعوبات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها الغرب. ويدعم هذا التصور أيضاً السلبية الغربية في سوريا، على عكس روسيا التي تدعم الأسد وتعمق علاقاتها مع العراق.
ومع ذلك، فإنه من الخطأ إنكار قدرة القوى الغربية، بما فيها بريطانيا، على إحداث الفارق. فالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وقوى غربية أخرى تمتلك أدوات عسكرية واقتصادية وسياسية هامة - لو أنها استُخدمت على نحو مشترك وصحيح - قد ترجح كفة الميزان في الأزمات مع إيران وسوريا، وتوجه الحكومات الإسلامية بعيداً عن تقويض المصالح الغربية وتوجه دفة الأمور نحو تعاون هادئ وتساعد على تقوية الحلفاء الغربيين.
ولابد أن يعي صناع القرار كيف أن قراراتهم بشأن القضية النووية الإيرانية وغيرها من التحديات الإقليمية تؤثر على بعضها البعض. وإذا فشلت الدبلوماسية في الوصول إلى حل، فسيتعين اتخاذ قرار في عام 2013، بشأن استخدام القوة ضد برنامج إيران النووي من عدمه. وسيكون لنتيجة هذا القرار تداعيات كبيرة على الصراع الإقليمي الأوسع نطاقاً. فامتلاك إيران للأسلحة النووية وحدوث سباق تسلح نووي في المنطقة هو احتمال أكثر مدعاة للقلق خاصة في ضوء صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في مصر وأماكن أخرى، على الرغم من عدم وضوح ماهية التأثير الذي سيخلفه الهجوم على إيران على المنطقة بأسرها. وعلى النقيض من ذلك، فإن النتيجة التي سيؤول إليها الصراع في سوريا وغيرها من الصراعات الإقليمية على السلطة ستؤثر على تحديد الطريقة التي سيتم التعامل بها مع إيران.
وفي ضوء هذه الاعتبارات، على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفائهما أن يتعاونوا في الأمور التالية:
·     زيادة الضغط على إيران عن طريق العقوبات مع الاحتفاظ بصورة صادقة بأن تكون جميع الخيارات مطروحة على الطاولة. ومع انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ينبغي إعطاء الجهود الدبلوماسية فرصة أخيرة ولكن ينبغي أن تكون ذات فترة زمنية محدودة.
·     لعب دور استباقي في سوريا للإطاحة بنظام الأسد وتفكيك المحور المتطرف ومساعدة العناصر الأكثر ليبرالية. وينبغي أن يشمل ذلك توفير الأسلحة وغيرها من المساعدات لجماعات معارضة غير إسلامية مختارة، وتنظيم المعارضة والمساعدة الخارجية لها، والتواصل مع العلويين في محاولة لحملهم على التخلي عن بشار الأسد. إن استمرار التعامل بسلبية مع هذه المسألة سيعني استمرار الحرب الدموية لفترة طويلة ويؤدي إلى تطرف العناصر المشاركة فيها، الأمر الذي سيعزز من وضع الإسلاميين والجهاديين وإكسابهم المزيد من الجرأة. كما ينبغي تقديم مساعدة دولية خاصة للدول المجاورة مثل تركيا والأردن التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين.
·     توسيع إطار الحوار والاستمرار في تقديم المساعدات للحكومات الإسلامية وعلى رأسها مصر، بناءاً على مقاييس ومعايير واضحة للتأثير على سياساتها، وعلى نبذ العنف، والتزامها بالقيم الأساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان؛ وتطبيق الشريعة في الحياة العامة؛ ومواقفها تجاه الغرب وإسرائيل. وفي حالة مصر يتعين أن يشمل ذلك على وجه الخصوص استمرار الالتزام باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل التي تعتبر إحدى دعائم الاستقرار الإقليمي منذ عقود. ويجب أن لا يكون هناك تصور خاطئ بشأن طموحات الإسلاميين. فهذه الحركات السياسية تدفعها رؤية بعيدة المدى فرضتها أيديولوجيات معادية لليبرالية ومناهضة للغرب ومعادية لإسرائيل. ولو تركوا وشأنهم لاتبعوها. ومع ذلك، تتيح التحديات الداخلية التي تواجه هذه الحكومات حالياً - وخاصة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة بالإضافة إلى اتفاق الرؤى والمصالح مع الغرب في موضوع مواجهة إيران وأتباعها و تنظيم «القاعدة» - فرصاً للتأثير عليهم.
·     تشجيع ودعم القوى والعمليات الديمقراطية الليبرالية في المنطقة كجزء من خطة طويلة المدى، بما في ذلك تحديد هذه القوى، ودعم برامج تعليمية وإعلامية وبرامج التواصل الاجتماعي التي تنقل رسالة الديمقراطية، وتشجيع إجراء انتخابات حرة ونزيهة تتوقف المشاركة فيها على الوفاء بالمعايير الديمقراطية.
·         الارتقاء بالدعم والمساعدة الاقتصادية للأردن مع تشجيع العاهل الأردني على إدخال إصلاحات كبيرة.
·     العمل على استقرار الاقتصاد الفلسطيني لمنع انهياره وزيادة الدعم لخطة بناء المؤسسات التي يتبناها رئيس الوزراء فياض، وتشجيع الدول العربية على عدم إضفاء الشرعية على «حماس» وعدم تقويتها على حساب السلطة الفلسطينية، وإنما تقديم المساعدة المالية للسلطة الفلسطينية إلى جانب توفير دعم إقليمي يهدف إلى إحياء عملية السلام وترسيخها.
·         وبالاقتران مع ما سبق، ينبغي البحث عن سبل لإعادة أحياء عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية.
·         اكتشاف طرق جديدة للتأثير بشكل إيجابي على الرأي العام العربي.
·     الأخذ في عين الاعتبار إمكانية انفجار الوضع على طول الحدود الإسرائيلية مع غزة وسيناء وتشجيع الحكومة المصرية على فرض سيطرتها بشكل أكبر على شبه جزيرة سيناء*.
·     الضغط على القوى السنية التي تقدم الدعم السياسي والمالي إلى «حماس» من أجل استخدام نفوذها لضمان قيام «حماس» بفرض اتفاقية وقف إطلاق النار على الجماعات المسلحة في قطاع غزة.
كما ينبغي على إسرائيل إدراك الفرص لتحسين وضعها عبر السبل الدبلوماسية والاقتصادية والتي من بينها:
·         التعاون وإن بشكل غير علني في معظم الحالات مع القوى الغربية في المسائل السابق ذكرها.
·         إعداد خطط للحالات الطارئة مثل تسرب الأسلحة الكيميائية السورية ووقوعها في أيدي خاطئة.
·         السعي بجد للحفاظ على اتفاقيات السلام الحالية مع مصر والأردن وتعزيزها.
·         البحث عن فرص لإعادة إطلاق عملية السلام مع السلطة الفلسطينية.
·         محاولة تطبيع العلاقات مع تركيا.
·         استخدام الوسائل العسكرية الكبيرة فقط كملاذ أخير.
مايكل هيرتسوغ هو عميد (احتياط) في جيش الدفاع الإسرائيلي وزميل ميلتون فاين في معهد واشنطن مقره في إسرائيل. وقد شغل سابقاً منصب رئيس هيئة موظفي مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي.

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,493,144

عدد الزوار: 6,993,500

المتواجدون الآن: 63