الدولة المدنية: تجربة فؤاد شهاب في لبنان

تاريخ الإضافة الإثنين 14 كانون الثاني 2013 - 6:30 ص    عدد الزيارات 674    التعليقات 0

        

الدولة المدنية: تجربة فؤاد شهاب في لبنان
بقلم أنطوان سيف

 

لم تتأقلم آذانُنا بعدُ مع وقعِ عبارة "التاريخ المعاصر". فالمعاصَرة، عندما تُحمَل على التاريخ، تُفرغه من تاريخيَّته، وتتمادى في هتك تقاليد في الفهم راسخة موغلة في القِدم. تحضر هذه التحفُّظات المنهجية عند استحضار فؤاد شهاب، بعد نصف قرن، لا اسماً علَماً لقائد جيش ورئيس جمهورية وحسب، بل عنوانٌ لمرحلةٍ ما زال لها شهودها، باقيةٍ على صورة "دولة مدنيَّة"، لا عسكرية ولا دينية، لا تني تسكن أحلام اللبنانيين،، وتتسامى بوحدتها وفاعلية مؤسساتها المستحدثة والمجدَّدة على تشرذمهم طوائف متناحرة.

حَمْلُ المدني على الدولة لا يزال، في عُرف البعض، بدعةً يأباها علمُ السياسة. فالمدني عادةً ما يتميَّز في الوجدان السائد، بأضداده، وهي عديدة، منها: مضادُّه الرسميّ الحكومي "الدولتي" الديواني. ومنها مضادُّه الديني الذي يحتكر، مثلا" لا حصراً، الزواجَ الشرعي على الأرض اللبنانية، ولكنه يُبيح صاغراً تسرُّبَ غريمِه، "الزواج المدنيّ"، المرتكَب "حلالاً" ما وراء الحدود، البحريةِ خصوصاً. ومنها مضادُّه الجزائيّ، أو حتى الجنائي، في المحاكم والأحكام. ومنها مضادُّه العسكري، وهو حمّالُ أوجهٍ عدَة غيرِ مدنيَّة، وساحقةٍ لمدنيَّة الحياة العامة التي تفرَّد بإدارتها في عالمنا العربي دهوراً حديثةً مديدة. ومنها مضادُّه البدوي الذي أوصى قديماً ابن خلدون بالتنبُّه في تمييزه ما بين نوعَي "العمران"، ويمكننا "تحديث" وصيَّته باعتماد مضارعه المتداول  : كالريفي والقروي والجردي والعزبوي... الذي لم يوقف غزواته للمدينة وضواحيها، ولم ينكفئ عن دأبه ترييف مدينيَّتها قبل أن تهجِّنه، ثم تنتهي بابتلاعه...
  فالجهد الفكري الذي صرفناه لنحت مصطلح "الدولة المدنيَّة"، لم يأبه للتناقض (بارادوكس) القابع بين طرفَي العبارة نفسها، وظلَّ على أيّ حال أقلَّ من الجهد اللاحق الذي بُذل لتأويلها وتزيينها وتسويقها في بيئة عربية مجمَّدة سياسياً منذ عقود. إلاَّ أنَّ انتشار مقولة "المدنيَّة" كصفةٍ غير دقيقة التحديد لدولة ولمجتمع يعدان بوفر من الحريات والعدالة، جعلها تتعرَّض للانتحال والسطو من نقيضَين لها: "المجتمع الأهلي" ومؤسساته (الطائفية) المسمّاة "منظَّمات مدنية"، و"الدولة الدينية" الأقدر، بزعمهم، على  بناء "مدنيَّة الدولة" على أنقاض الدولة الأمنية الكافرة!
ولكن، ما "الدولة المدنية" في كتاب ندى حسن فيَّاض؟(¶) هذه "الدولة" التي جعلتْها الكاتبةُ صنوَ الكلام على تجربة فؤاد شهاب في الحكم؟
شروط الدولة المدنية هي، عندها، الاحتكامُ إلى الدستور، وقصرُ تعديله على الشعب، أو ممثّليه... واستقلالُ السلطات عن بعضها البعض: التنفيذية والتشريعية والقضائية... "لأن حلم كل مواطن، تقول، مهما كانت إنتماءاته الطائفية أو العقائدية، بناءُ الدولة المدنية التي تقوم على المؤسسات الدستورية التي تحترم الحريات والقانون، وتصون حقوقه" (ص33).
والتجربة الشهابية، برأيها - ومن خلال عرضٍ دقيق وموسَّع لإنجازاتها في إنشاء المؤسسات الادارية وإصدار المراسيم الناظمة لعمل السلطة والادارات الرسمية (قدمتْ بها ثبتاً في مختلف الحقول)- "تميزت بأنها عملت على إقامة لبنان المؤسساتي المدني غير الطائفي ـ السياسي، وتعزيز الروح المدنية لدى المواطن" (ص43).
أمّا كاتب مقدِّمة الكتاب، الاستاذ بسَّام ضو، فاختصر الدولةَ المدنيَّة التي سعى فعلاً فؤاد شهاب إلى بنائها عن طريق الاصلاحات التي قام بها في الإدارة الرسمية اللبنانية، بأنها "دولةٌ حديثة تتأسس على علاقة التعاقد الوطني، بعيداً عن التعاقد الطائفي" (ص20). "التعاقدُ الوطني"! عبارةٌ جديدة في القاموس السياسي العربي. قد يكون نظيرها الأشهر "العقد الاجتماعي" الذي بلوَر مفهومَه روسو، والذي يعني أن الحق (أو الدولة) لن يكون بالضرورة، بعد اليوم، نتيجةَ القوة والقهر، بل بالعقد والاتفاق الواسع الحر، حتَّى ولو كان التاريخ (أي الماضي البشري أينما كان)، لم يعرف لغاية "الآن"، آنِ زمن روسو، إلاّ نموذج الدولة القاهرة! بهذا كان هوبز، بنظر روسو، "مؤرخاً" حصيفاً لماضي الدول الناشئة جميعها بالقوة، والمستمرة بالقوة ولكن بواسطة القانون. إلاَّ أنَّه لم يكن المفكر المستشرف مستقبلاً سياسياً غير مسبوق في تاريخ البشرية جمعاء، يطرح إمكان بناء سلطة سياسية شرعية على تعاقد حر. لقد أصدرَ غسَّان سلامة كتيِّباً بعنوانٍ لافتٍ عربيّاً: "نحو عقدٍ اجتماعيّ عربيّ جديد: بحثٌ في الشرعية الدستورية"، عام 1987، أي عشيِّة الزلزال الدولي الكبير الناجم عن سقوط منظومة الدول السوفياتية، وقبل "الربيعات" العربية بربع قرن، نال تقريظَ المحلل السياسي المصريِّ المعروف السيِّد يسين، لأنه يعيد إلى "اللغة المدنيَّة"، وثقافة الديموقراطية، حضورَها السياسيَّ الضروريَّ الفاعل في الساحة العربية.
فالاشكالية التي يطرحها كتابُ ندى حسن فيَّاض، ضمناً ومن غير إشارةٍ لغويةٍ صريحة، هي التالية: كيف تسنَّى لفؤاد شهاب أن يؤسس "دولةً مدنية" في حرم النظام الطائفي السياسي اللبناني؟ وكما يوحي بذلك عنوانُ كتابها، حيث عبارة "الدولة المدنية" هي أكبر وأعلى (أسبق!) من عبارة "تجربة فؤاد شهاب في لبنان"؟ على الرغم من أن المؤلفة تعترف "بأن عنوان الدراسة يتعلق بالدولة المدنية التي لم تتحقق بعد" في لبنان (ص37)! إلا أني أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأنَّ مردَّ ذلك إلى أن ثمة لبْساً في معنى العبارة، ناجماً عن مفارقةِ أنَّ بعض تسميات مؤسساتٍ رسمية لبنانية تحمل، مع ذلك، عبارةَ "مدنيّ"، مثل: "مجلس الخدمة المدنية". وقياساً على هذه التسمية وملابساتها، اعتُبرتْ "هيئة التفتيش المركزي" مؤسسةً "مدنية" أيضاً! ناهيك بمشروع "الضمان الاجتماعي"، و"المشروع الاخضر"... "فمجلس الخدمة المدنية" المولج بشؤون موظَّفي الدولة في لبنان، سُمي هكذا، "الخدمة المدنية"، لتمُّيزه عن "مجالس" أخرى رديفة تهتم بشؤون الموظَّفين غير المدنيّين، العسكريّين، لا لأنه مؤسَّسة "مدنية". إنَّه  فعلاً مؤسسة "رسميَّة" بامتياز.
وبناءً عليه، تكون "الدولة المدنية"، عند الكلام على إنجازات الرئيس شهاب، تعني نمطاً من السياسة، أو أسلوباً في تعاطيها، يهدف إلى الحدّ من مساوىء الطائفية داخلَ نظامٍ طائفي. كيف؟ - من خلال الاصلاح السياسي، وتحديث عمل المؤسسات الرسمية العامة، وإرساء العدل (والعدلُ، لغةً، هو رديف المساواة، والمساواة الكاملة في الحقوق تناقضُ مبدأ الطائفية السياسية)، و"الانماء المتوازن" الذي سمَّاه مستشارو الرئيس شهاب الفرنسيُّون: "الانماء المنسجم" (Développement harmonisé)، أو الذي فُرِض عليه الانسجام، ليكتسب شرعاً تسميتَه الاصلاحية الفاعلة! كما قدَّمت المؤلفة مرادفاتٍ بذلك، مثل: "بناء طائفية عادلة"، أو "إلغاء دور الطائفة كوسيط بين المواطن والدولة" (ص289)... وفي توصيفٍ لسليمان تقي الدين، أن هذه الدولة الحديثة والادارة النزيهة التي بناها فؤاد شهاب لم تبلغ "إلا حدّاً معيّناً"، وتبقى آمال التفاؤل مفتوحةً مع إذا الشرطية: "إذا ما توفرت – كما قال – الإرادة، وتوفَّر الرجال الذين هم من طينة فؤاد شهاب، مشبَعين وطنيةً وصدقاً وإخلاصاً لفكرة الوطن والدولة" (ص290).
إنَّ مؤرخاً ثقافياً مولَعاً برصد الانجازات الكبرى المنقوصة، أو المحبَطة، يغويه ما يمكن تسميته "اللحظة الشهابية" في تاريخ الدولة اللبنانية الحديثة، وتالياً واستطراداً في تاريخ الدولة العربية الحديثة. هذه "اللحظة"، بإنجازاتها النسبية وخيباتها، تزداد تألقاً بحسب قاعدة الضدِّية البصرية بين الألوان (contraste) حيث اللون يزداد قوةً على خلفيةِ لونٍ آخر بعيدٍ عنه، ضدِّيٍّ له. ودعكَ هنا من المبالغة الأمنية لفعلات "المكتب الثاني" التي لم ترقَ، مع كل انحداراتها المسلكية والأخلاقية، إلى "عيار" إرهاب من النمط العربي الشائع (آنذاك!)، ولم تتعدَّ رتبة حالة ازعاج في ساحة الحريات العامة اللبنانية الفالتة والراسخة!  حال "اللحظة الشهابية" تلك هي التي سمَّتْها المؤلفةُ: "الدولة المدنية"، وهي لحظة ناصعة على خلفيةِ تاريخ سابقٍٍ (لحينه ولحيننا) كثيرِ الطائفية. والأنكى، على خلفيةِ لاحقٍٍ أكثرَ طائفيةً ومذهبيةً وارتخاءً وطنياً لا تني شرايينُه تتمدَّد إلى هذه اللحظة، لحظتِنا.
 "الدولةُ المدنية" ليست العلمانية الكاملة القائمة على المساواة التامة بين المواطنين، أي المواطَنة، التي تتميز أيضاً بخصومها ومسيئي فهمِها الذين، مع ذلك، لا مناصَ من اعتبار أُخوَّتهم الوطنية، واحترامِ حرّية خيارهم. تلك حالٌ عاناها أيضاً كمال جنبلاط، من غير إحباطٍ أو تشاؤم، تحت اسم "التسوية"، أو "فلسفة التسوية"، بنضال العاقل الذي يجعل الانسانيَّ والوطنيَّ، والروحيَّ أيضاً، الوعاءَ الأكبرَ المتَّسِعَ والمستقطِبَ لما دونه. على هذا المقياس، يكون "للتسوية"، بهذا البُعد، مرادفاتٌ في السياسة العملية: كالحوار، والتنازل الفردي بغيةَ اغتناء جمعي في المقابل، والميثاق والوفاق ومضارعهما النظريَّ: الميثاقية مرادفة التعاقد الاجتماعي-السياسي، وكل ما ينحاز، في تأرجحه البشري، نحو الديموقراطية والسلمية، بعيداً عن القهر.
 عند قراءة باكورة المؤلِّفة بالمقايسة مع ما يجري في عالمنا العربي اليوم، يتبادر تلقاءً إلى وعي اللبنانيين، المخضرمين منهم خصوصاً، المدى الزمني المتراكم على غياب دولة فؤاد شهاب "المدنية"، الغياب ذي الأربعين عاماً، أو الأربعين خريفاً، الذي لم يقوَ على طمر الرغبات الدفينة العارمة في تغيير نظام دولتهم الذي أوجد له تبديلاً الاصلاحُ الهادىء، لا الثورة الهادرة، وبدلاً من الثورة الهادرة. هذه "الدولة الشهابية" يوتوبيا نابتةٌ باستمرار متجددةٌ  أوسع من إرثها، وأوسع من أرضها. تاريخٌ لا يبهت ولا يشيخ ولا يموت، منغرزةٌ في أحلامٍ بوصلتُها تشير إلى مستقبلٍ لا يُنهكه طولُ الانتظار، ولا يستهلكه.
                                                                           
¶ ندى حسن فياض: "الدولة المدنية – تجربة فؤاد شهاب في لبنان" – منتدى المعارف – 2011.

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East..

 السبت 11 أيار 2024 - 6:24 ص

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East.. Armed groups aligned with Teh… تتمة »

عدد الزيارات: 156,815,084

عدد الزوار: 7,044,099

المتواجدون الآن: 74