الحركات الشعبية في المنطقة العربية: إشكاليات التغيير ومقوّماته 2/2

تاريخ الإضافة الأحد 1 كانون الثاني 2012 - 11:06 ص    عدد الزيارات 979    التعليقات 0

        


الحركات الشعبية في المنطقة العربية: إشكاليات التغيير ومقوّماته 2/2



الدكتور خالد قباني


نشرت «اللواء» في عددها السابق الجزء الأول من دراسة الوزير السابق وأستاذ القانون خالد قباني حول الحركات الشعبية في المنطقة العربية: إشكاليات التغيير ومقوّماته، وتطرّق الجزء الأول إلى أوضاع البلاد العربية وحِراك التغيير خصوصاً من حيث قيام الدولة الدستورية.. وهنا الجزء الثاني والأخير.

ثانياً: أزمة التربية ودورها في بناء الدولة :

للتربية مقومات لا بد من توفرها لتتكون شخصية الإنسان وتشكل نواة لمواطنية صالحة تنطلق من بناء الذاتية الفردية، وتكون قادرة على التأقلم مع البيئة الاجتماعية ومهيأة للإندماج في المجتمع، وتساهم في حركة وأنشطة هذا المجتمع وتعي وتدرك أهمية الشأن العام وتشارك في الحياة السياسية، بما يؤدي إلى تحقيق الصالح العام، وإلى بناء مجتمع مدني تكون فيه المواطنية أساس الانتماء .
لا يمكن للإنسان أن يخرج إلى المجتمع ويكون عنصراً فاعلاً في هذا المجتمع إلا إذا امتلك من المعارف والمعلومات والقدرات ما يستطيع معه أن يواجه اعباء الحياة ومتطلباتها. ولذلك تعمل التربية، على تزويد الطفل بالمعرفة والمعلومات المختلفة وتمكين كل فرد من اتقان مهارته وتطوير ملكاته وإمكاناته العلمية والفكرية وتنمية قدراته ومواهبه إلى أقصى حد، وبالتالي، فإن من أهداف التربية، العمل على أن تقوي في كل فرد الملكات العقلية والخلقية والجسدية، بما ينعكس على تكوينه الشخصي ومن ثم على البيئة الاجتماعية .
ولا يعني ذلك، ولا يجب أن يعني، أن الهدف من التربية هو الوصول إلى درجة الكمال في الأعمال المدرسية، بقدر ما هو إعداد الفرد للحياة من خلال النمو المتـزن لجميع قواه وقدراته العقلية والخلقية والجسدية، التي تعزز فضيلة الثقة بالنفس، والتي تنتج، رجالاً أحراراً .
ولا بد من التأكيد على دور البيت والأهل في التأثير على نمو الطفل وتكوين شخصيته . ففي البيت توضع البذور الأولى لتكوين الشخصية، بما يكتسبه من سلوك وعادات ومعنـى الخطأ والصواب، والخير والشر، والأثرة وحب الذات، والإنغلاق والإنفتاح، والخوف والجرأة ،والصدق والكذب، والثقة بالنفس والشعور بالمسؤولية .
وبالمقدار نفسه، يكون للمدرسة في تكوين شخصية الفرد شأن عظيم، فلا تكتفي المدرسة بإسداء العلم والمعرفة إلى الطفل، بل تشكل، بالنسبة إليه، مدخلاً إلى التفاعل مع الخارج، والخروج من الطوق العائلي المحكم إلى بناء علاقاته الخاصة، وإثبات وجوده .
ولا حياة للفرد خارج المجتمع، فالإنزواء أو التنسك ليس من طبيعة الحياة، وهو مجافٍ للطبيعة الإنسانية، لأن الإنسان خلق ليبنـي الحياة ولإعمار الكون، وذلك لا يتم إلا من خلال حركة المجتمع والإندماج في حياة المجتمع، إذ لا يمكن تحقيق الذات الإنسانية إلا من خلال المجتمع .
وذاتية الفرد لا تظهر بصورة جلية إلا في وسطه الاجتماعي . ولا يمكن للفرد أن يعبر عن ذاته إلا من خلال عمله في المجتمع، أي من خلال اندماجه في بيئته الاجتماعية وانخراطه في العمل الاجتماعي، وما ينسج من علاقات اجتماعية وإنسانية تميزه وتعطيه مركزاً متقدماً داخل مجتمعه وبيئته . فالإنسان هو اجتماعي بطبعه، أو كما يُقال هو حيوان اجتماعي .
والتربية الحديثة تعمل على التوفيق بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع، فهي تراعي مصلحة الفرد في التعليم واكتشاف ذاته وتنميه قدراته، كما تراعي مصلحة المجتمع وتماسكه وتقدمه والخير العام لهذا المجتمع . فالتربية عملية اجتماعية يتشبع الفرد فيها بثقافة المجتمع .
وفي الحياة الاجتماعية تتبلور الشخصية الإنسانية، فيتعرف الفرد على الآخر ويتقبله ويصغي إليه، وينفتح على أفكار ربما لا تطابق أفكاره، وبما يؤدي إلى تفاعل الأفراد داخل مجتمعهم، ويتعلم لغة الحوار والتواصل، بحرية، ويبدأ بتلمس مفهوم الديموقراطية، أي قبول الآخر والتحاور معه، ويتغلغل حسّ الديموقراطية في قلبه وروحه وفكره، بحيث تصبح الديموقراطية نمطاً طبيعياً من أنماط حياته، بما يفتح الطريق أمام السلام الأهلي والسلام المجتمعي .
والمشاركة في الحياة السياسية هي سمة الدول الديموقراطية، يتحول الفرد من خلال هذه المشاركة من الحالة السلبية إلى الحالة الإيجابية، أي إلى حالة المواطن الذي يشارك ويساهم في الحياة العامة وفي إدارة الشأن العام، والذي لا تقتصر علاقته أو ارتباطه بالدولة على الرابطة القانونية، أي رابطة الجنسية، التي تحدد انتماءه القانوني إلى دولة معينة، فهذه الرابطة القانونية هي ضرورية، ربما لممارسة حقوقه وواجباته تجاه الدولة التي ينتمي إليها برابطة الجنسبة، ولكنها غير كافية لاعتباره مواطناً في الدولة، إلا إذا تابع وواكب مسيرتها السياسية وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وساهم في بناء نهضتها، وشارك في تكوين مؤسساتها السياسية، عبر الآليات الدستورية والقانونية المعهودة . وهذا المفهوم للمشاركة وللمواطن ما يزال مفتقراً، أو على الأقل منتقصاً في منطقتنا العربية، ولا بد من تعزيزه وإنمائه، لكي يلعب المواطن دوره التنموي في الحياة السياسية .
وعلى هذا الآساس تُفهم المواطنية على أنها انتماء الفرد إلى وطن ودولة، انتماءً يجعله عنصراً إيجابياً وبناءً، يتفاعل مع بيئته ومحيطه، ويندمج في مجتمعه، وينخرط في عملية بناء الدولة . والمواطنة الفاعلة لا تقتصر على الاقتراع الحرّ وإنما تقوم أيضاً على العلاقات البنّاءة بين المواطنين أنفسهم وبين المواطنين والدولـة، وهي تشمل الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية .
وهذا المواطن نفسه يعي حقوقه وواجباته، ويدرك أن مواطنيته لا توليه فقط حقوقاً يحق له أن يتمتع بها وأن يمارسها، بل تملي عليه أيضاً التزامات وواجبات، تجاه وطنه، عليه أن يقوم بها، لكي تتوازن الحقوق مع الواجبات، وتستوي أمور البلاد على موازين الحق والعدالة .
والحقوق ليست إمكانات فقط يمنحها الدستور للمواطنين تجاه الدولة، بل في وجه الدولة، في كثير من الأحيان، وهي حقوق أساسية، ترتبط بالطبيعة الإنسانية، كالحرية والمساواة والتعبير عن الرأي، وغيرها من الحقوق، لمنعها من التسلط أو الاستبداد أو الطغيان، ولكنها أيضاً، حقوق مشاركة في الحياة العامة، وفي تسيير الشؤون العامة، وفي إدارة الدولة ومؤسساتها، بل حقوق تعطي صاحبها حق الاعتراض والانتقاد وحق المراقبة والمساءلة والمحاسبة، لكي تستقيم الحياة الديموقراطية في ظل تطبيق القانون واحترام القاعدة القانونية التي تساوي بين الجميع، والتي تشكل مبدأ من مبادىء استقرار الدول وأمنها السياسي والوطني .

هذه القيم الديموقراطية، قيم الحرية والعدالة واحترام القانون والاعتدال والتسامح وقبول الرأي الآخر والمواطنية  تشكل بحد ذاتها ثقافة مجتمع، للتربية المدنية نصيب وافر في تأصيلها وإغنائها.
وقد دخل مفهوم المواطنية لأول مرة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن عقب الثورة الفرنسية في سنة 1789، وكانت غايته الاعتراف بكيان الفرد والإقرار بحقوق الإنسان الطبيعية والمدنية، والحد من مصادرة الإنسان في شخصيته وأمواله وحريته من قبل الحاكم، وإعلان مبادىء الحرية والمساواة والحق في التملك، كما شكل إعلاناً للمبادىء الأساسية التي يجب أن يقوم عليها بنيان الدولة وتنظيمها، ومنها مبدأ سيادة الأمة الذي يميز بين الدولة وشخص الحاكم، ويجعل من الحاكم عاملاً من عمال الدولة يتولى مسؤوليات مفوضة إليه من الشعب لمدة معينة وفي حدود صلاحيات معينة لا يستطيع تجاوزها، وكذلك مبدأ توزيع وظائف الحكم بين سلطات وهيئات محددة، وهو المبدأ المعروف بمبدأ الفصل بين السلطات، منعاً من احتكار السلطة والاستبداد والطغيان، في ما لو حصرت السلطة بيد شخص واحد أو هيئة واحدة. لذلك ارتبط مفهوم المواطن بمفهومي الدولة والحرية، واعتبر إعلان حقوق الإنسان سنة 1789 كوثيقة ميلاد للمواطن، وتحول الأفراد من رعايا Sujets إلى مواطنين Citoyens، كما تحول الحكم من ملكية تحكم بمقتضى حق إلهي إلى نظام حكم يستند إلى الشرعية، أي إلى قبول الشعب، ويرتكز على الحريات، وبات ينظر إلى الحقوق والحريات على أنها حقوق طبيعية تخص الإنسان بوصفه إنساناً وبصورة مستقلة عن المشـرع، وبالتالي لا يستطيع القانون أو الحاكم إلا أن يعترف بها ويقرها، ذلك أن احترام حقوق الإنسان هو أمر ضروري لممارسة حقوق المواطن . وعلى هذا الأساس جاءت المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لتقول « إن هدف كل تجمع سياسي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية الدائمة » وهو ما يذكرنا بقول الخليفة عمر بن الخطاب : « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً » وهذا يعني أن الإنسان لم يوجد من أجل الدولة وإنما جعلت الدولة من أجل الإنسان، وهذا ما يجعل الدولة خاضعة لحكم القانون . هذه المفاهيم والقيم هي ما تحاول التربية أن تغرسه في عقول وقلوب الأجيال الناشئة ليكونوا مواطنين صالحين وليشكلوا نواة بناء الدولة القائمة على مبادىء الحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان . وهو ما يجب على الدولة، بطبيعة الحال، أن ترسخه وتزرعه في عقول وقلوب الأجيال الناشئة لكي يستوي الحكم على أساس من الحق والعدالة، ولكي يستقيم أمر الفرد والمجتمع، ولكي تخرج مجتمعات هذه المنطقة من حلقة العنف والثورات التي تأكل بعضها بعضاً، ومن حالة الفوضى، إلى رحاب الحوار والوئام الوطني عبر التغيير السلمي ومبدأ تداول السلطة الذي تؤمنه آليات الديموقراطية.
ثالثاً : أزمة التنمية والعدالة الاجتماعية :
لعل الظاهرة البارزة في منطقتنا العربية هي نمو العاصمة والمدن الرئيسية وازدهارها، وتركيز المصالح الحيوية فيها، من مؤسسات مالية واقتصادية وجامعات ومسارح ومراكز ثقافية، على حساب باقي المناطق والأرياف، بحيث تبدو فيها أطراف الدولة باردة .
ولذلك، لا بد من خطة لتصحيح أوضاع المناطق وضخ الدم فيها، لا بد من عمل إنمائي على صعيد المدن والقرى البعيدة عن المركز، وبما يؤدي إلى الإنماء المتوازن للمناطق، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، بحيث ينظر إلى إقليم الدولة كوحدة إنمائية متكاملة، لأن هذا الإنماء المتوازن يعتبر ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، وهذا الإنماء يطرح أمرين :
- دور أساسي للدولة في القيام بعملية الإنماء المتوازن بما يؤكد على وحدة الدولة والمجتمع ويحقق التوازن بين المناطق والفئات الاجتماعية، ويغني بالنتيجة التضامن الوطني .
- دور المناطق في عملية الإنماء بما يؤمن مشاركة المناطق من جهة ويعزز دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة ثانية .
ولا بد لهذه المشاركة المناطقية أو المحلية أن تكون ممأسسة بحيث تكون ذات فعالية على الصعيد المحلي وعلى الصعيد الوطني، وهذا يتطلب تنظيماً إدارياً حديثاً يؤمن للإدارات المحلية، أن تنتظم، في إطار القانون، في وحدات إدارية تتمتع بالاستقلال الذاتي في إدارة شؤونها الذاتية المحلية، وتكون معززة بالإمكانات المالية والأجهزة الإدارية والفنية، التي تؤمن لها المشاركة الحقيقية في عملية التنمية المحلية والوطنية، في إطار من التنظيم الإداري اللامركزي، أي ما هو معروف في المنطقة العربية بالإدارة المحلية أو بالحكم المحلي، الذي يوفر الأطر والمؤسسات القادرة على إنجاح خطة التنمية الشاملة ويشرك القطاع الخاص في هذه العملية، من جهة، والذي يتيح، للمواطنين، المشاركة في إدارة الشأن العام من جهة ثانية .
ويقوم هذا التنظيم اللامركزي الإداري، ببعده الاقتصادي والإنمائي، وكذلك الديموقراطي، على فكرة المشاركة في الحياة العامة والتي تعتبر إحدى ركائز بنيان الدولة الديموقراطية .
إن الدولة التي تسعى النظم التربوية إلى بنائها هي الدولة التي تقوم على مبادىء الحق وتؤمن المساواة بين الأفراد أمام القانون وأمام المرافق العامة وتساوي بين المواطنين في المعاملة وفي الحقوق والواجبات، بحيث لا تميز في المعاملة فيما بينهم على أساس من العرق أو اللون أو الدين أو المنـزلة الإجتماعية، بما يشعر المواطن، كل مواطن، بأن له ما لغيره من حقوق ومنافع، أي الدولة التي لا امتيازات فيها ولا تمييز .
ولعل من أهم صفات الدولة هي الدولة العادلة، لأن العدالة تستجلب الرضى والاطمئنان بل والـولاء، ولأن العدالة حتى في الظلم تبقى مقبولة، والمثل يقول: «ظلم في السوية، عدل في الرعية». وأهم تجليات العدالة، تتجسد في العدالة الاقتصادية والاجتماعية، لأن الحرية نفسها تصبح قيمة جوفاء أو شكلاً فارغاً من أي مضمون إذا لم يكن الإنسان محرراً من الفقر والعوز، أي إذا لم تؤمن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب حقوقه الشخصية، أي إذا لم يتوفر له الأمن الاجتماعي والاقتصادي، كحق العمل والتعلم وحق الملكية، والاستشفاء، وهذا ما يدخل في صميم مفهوم الديموقراطية الاجتماعية .
فالديموقراطيةالاجتماعية ترمي إلى تحرير الفرد من جميع أشكال الضغط، وخلق ظروف وأوضاع حياة تؤمن لكل فرد الطمأنينة والأمان الاقتصادي والاجتماعي، بما يقلص مساحة اللامساواة التي تخلقها الفروقات الاقتصادية، ويستطيع كل مواطن أن يثبت حقه في الحصول على حماية المجتمع من طوارىء الحياة، ولا تكون الثروة فيه وسيلة لبلوغ السلطة أو تصبح السلطة أداة لبلوغ الثروة . فإذا لم يتمكن المواطن من خلال استخدام حقوقه السياسية تأمين الإصلاح الاجتماعي، وإذا لم تقم الدولة بمثل هذا الإصلاح، تخفيفاً للفوارق الطبقية وتحقيقاً للعدالة، فسيجد المواطن نفسه مضطراً لتحقيق هذا الإصلاح من خلال الثورة .
إن هذا البعد الاقتصادي والاجتماعي والإنمائي للديموقراطية يقوم على فكرة التضامن الاجتماعي التي تعتبر من ركائز بناء الدولة ووحدتها، وتشكّل صمّام أمان للعدالة ولاستقرار النظام . وفي وضع من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي يجب على الدولة أن تتدخل لضبط عملية التنمية على المستوى الوطني لتحقيق المساواة والعدالة وضمان حد أدنى من الوئام الوطني .
وترتبط الديموقراطية برباط محكم بالتنمية بوصفهما قوتين تحريريتين من الفقر والجهل والتبعية تعزز إحداهما الأخرى، فلا تنمية دون ديموقراطية، أي دون مشاركة واعية للشعب في عملية التنمية، ولا يمكن للديموقراطية أن تنمو وتزدهر في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية وتنموية متخلفة، فالتنمية والديموقراطية مقولتان تقوم بينهما علاقة متبادلة، تشتمل كل منهما وفي آن معاً على عناصر اقتصادية ومجتمعية وسياسية .
ومسار التنمية؛ كما مسار الديموقراطية، هو مسار طويل في الزمن، لا يتحقق بين لحظة وأخرى، وهو يبدأ بتغيير الذهنية والعقلية التي تسود في المجتمع والمتأثرة بالتقاليد والأعراف والمفاهيم الثابتة، لكي تتهيأ لتقبل التغيير المطلوب القائم على الانفتاح والحوار والتفاعل مع الثقافات ومع حركة التقدم والتطور والتحديث التي تسود العالم المتقدم . فضلآ عن أنه مسار تدريجي ومتزامن في المحاور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا سيما الإنماء المتوازن بين المناطق للتخفيف من حدة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين سكان هذه المناطق، وبالتالي، التوازن بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وبين الطبقات الاجتماعية، من خلال إعادة توزيع الثروة الوطنية بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويفتح فرص العمل أمام المواطنين، ولا سيما أمام المتخرجين من الجامعات لتحسين ظروف معيشتهم ومشاركتهم الفعلية في عملية التتنمية الاقتصادية والاجتماعية . ولقد أكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 55/96 للعام 2000 المتعلق بتعزيز الديموقراطية وتوطيدها على الربط الوثيق بين الديموقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة والتنمية، وعلى العلاقة العضوية بين التنمية وفعالية المجتمع المدني . كما أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة الأولى منه على أن لكل إنسان ولجميع الشعوب المشاركة والإسهام في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية والتمتع بهذه التنمية، وفي المادة الثانية منه على حق الدول وواجبها في وضع سياسات إنمائية وطنية ملائمة تهدف إلى التحسن المستمر لرفاهية جميع السكان وجميع الأفراد على أساس مشاركتهم النشطة والحرة والهادفة في التنمية وفي التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها .
ولعل من أهم عوامل النمو الاقتصادي المؤثر في التنمية الاجتماعية، هو الاستثمار في الإنسان، أي في التعليم، فضلاً عن الاستقرار السياسي وتحقيق دولة القانون والحكم الرشيد المسؤول والحرية الاقتصادية، وهذا ما تحتاجه المنطقة العربية في المرحلة التي تمر بها، لكي تشق طريقها نحو التغيير والإصلاح المنشود .
خاتمــة :
إن ما يحصل في عالمنا العربي اليوم، أو في غيره، من ثورات وانتفاضات تثبت أن الديموقراطية لم تؤمن الآليات المناسبة والفعالة لما تتطلبه وتحتاجه مجتمعات هذه الدول من إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، وأنها لم تتعدى إطار النصوص والشكليات القانونية . وأن مفهوم الديموقراطية وأبعادها ومضامينها، من اعتماد أسلوب الحوار والنقاش والتواصل والاعتراف بالآخر، في إحداث التغيير المطلوب، او الإصلاح المرتجى، بقي غريباً عن سلوكيات مجتمعاتنا، مما يؤكد أيضاً أن النظام التربوي والبرامج الدراسية المعتمدة فيها وطرق التعليم القائمة في أغلبها على أسلوب التلقي، لم تؤدِ الغاية المطلوبة من تهيئة الأجيال الناشئة لاستيعاب وفهم آليات التغيير وتداول السلطة بالوسائل الديموقراطية، وعدم اللجوء إلى العنف . وأن نظرة الحاكم إلى السلطة هي نظرة التملك، أي أن الحاكم يتصرف بآلة الحكم كما يتصرف بأملاكه الخاصة، ويسخر القوانين في سبيل ذلك، كأن يلجأ إلى تعديل الدستور للتجديد لنفسه إلى ما لا نهاية .
إن كل ذلك يستلزم إعادة النظر بأنظمتنا ومناهجنا التربوية وبرامجنا التنموية بما يكفل بناء إنسان سوي منفتح على الأفكار والآراء المختلفة ومتقبل للرأي الآخر، وقادر على إحداث عملية التغيير واستيعاب تجارب الآخريـن، وذلك بالطرق الديموقراطية والوسائل السلمية . فالديموقراطية تمسي شكلاً فارغاً إن هي لم تترجم إلى برامج ومناهج تربوية وتنموية تولي الأهمية القصوى لمبادىء الحوار والتواصل والاعتراف بالرأي الآخر، وتؤكد على فضيلة التنوع في الوحدة، وتحرص على ضمان الحقوق والحريات واحترام القانون .
أليس غريباً أن يكون للدول العربية دساتير ليبراليـة، وأن تمتليء مقدمات هذه الدساتير بنصوص وأحكام تعظِّم الحرية ومبادىء المساواة والعدالة وتؤكد على ضمان الحقوق الشخصية والحريات العامة، وتتحدث عن استقلال القضاء، وتحرص على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وتلحظ وجود المؤسسات الضامنة للحقوق والحريات بشتى أنواعها ومجالاتها، ثم يتبين لنا أن كل هذه النصوص والأحكام لا أثر لها على أرض الواقع ولا تلقى الاهتمام أو التطبيق العملي أو الالتـزام بها، حتى ممن وضعوا هذه النصوص والأحكام أو الذين أقرّوها، وبحيث باتت زينة خارجية لنظام يدعي الديموقراطية .
إن مفهوم الديموقراطية في هذه الدول لم يلامس العقول أو القلوب، وهذه المعضلة تكاد تكون مشتركة في الأنظمة السياسية في منطقتنا العربية، حيث هناك هوة واسعة بين النص وتطبيقه، وبين وجود القاعدة القانونية والالتـزام بها. وهذا التناقض يظهر حجم المأساة التي نعيشها في عالمنا العربي، والتي تؤكد هذا النقص الكبير في الثقافة الديموقراطية بل في الثقافة التربوية مضموناً وأسلوباً، عسى أن تكون الحركة الشعبية التي نعيشها اليوم، إيذاناً بيقظة جديدة تفتح آفاق التغيير المرتجى .
وعلى الرغم من كل ما تقدم، يبقى ان هذه التجربة التي شهدتها الحواضر والساحات العربية هي تجربة رائعة، ورائدة في الديموقراطية، لم ترَ المنطقة العربية مثيلاً لها في التاريخ العربي الحديث، وأهميتها أنها تعطي، من جهة درساً وأمثولة لكل حاكم في الحكم الرشيد، ومن جهة ثانية، تفتح آفاقاً واسعة نحو التغيير الديموقراطي والتناوب على السلطة، بعيداً عن العنف .
ولكن لا بد من تعميق هذه التجربة وإغنائها من خلال بناء المؤسسات الديموقراطية التي من شانها أن تحمل بذور التغيير النضرة وإروائها لتكون نواة لمستقبل واعد حيث تصبح القيمة، للمؤسسات ودوامها واستمراريتها، وللقانون كمعيار للسلطة، وللشرعية كأساس للحكم، كما لا بد للمجتمع المدني عبر مؤسساته والمنتديات الثقافية من أن يلعب دوره في إنعاش ونشر الفكر والوعي الديموقراطي ومده بأسباب النماء والحياة، ولتكن الجامعات ساحات لتلاقح الأفكار والحوار الحر المنفتح البناء في مناخات أكاديمية رصينة، تساهم في نهيئة الشباب للعمل العام، وترسخ في أذهانهم وعقولهم مفهوم الشأن العام، وعلى رؤساء الجامعات ومجالسها دور كبير في تهيئة هذه المناخات وتوفير الأجواء الجامعية الملائمة لمثل هذا الحوار الديموقراطي الهادىء بعيداً عن المزايدات والفوضى .
كسر الشباب حاجز الخوف، وبات المستقبل مفتوحاً أمام الشباب الديموقراطي الواعد، الذي فاجأ الجميع بوعيه ونضجه، وأدهش الجميع بانضباطه وطاقاته الكامنة.

 وزير سابق وأستاذ في القانون.
 



 

لمحة عامة: "سرايا الجهاد"..

 الجمعة 27 أيلول 2024 - 10:01 ص

لمحة عامة: "سرايا الجهاد".. معهد واشنطن..بواسطة ساري المميز, عبدالله الحايك, أمير الكعبي, مايكل ن… تتمة »

عدد الزيارات: 171,932,857

عدد الزوار: 7,651,356

المتواجدون الآن: 0