"شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان"... مرجعية معنوية... هل هي عملية؟

تاريخ الإضافة الأربعاء 6 أيار 2009 - 4:21 م    عدد الزيارات 961    التعليقات 0

        

عباس الحلبي... (رئيس الفريق العربي وعضو اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي - المسيحي )      
قرأت نص "شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان" بأقسامه الثلاثة: المبادئ وخصوصية لبنان والشرعة، فلم أجد نفسي غريباً عن المضمون. القسم الأول وفيه ثلاثة فصول: الأول يتصل بتحديد السياسة وشرح أبعادها ومراميها، وصنّفها بأنها فنّ شريف لخدمة الإنسان والخير العام، أجد نفسي ومن موقعي الدرزي معنياً به. إلا أنني وجدت نفسي معنياً، وأيضاً من موقعي، حتى في الفصلين الثاني والثالث أي العلاقة بين الكنيسة والدولة ومشاركة المسيحي في الحياة السياسية.
في هذين الفصلين بعض الخصوصية المتصلة بالكنيسة. ومن موقعي، وأنا من القائلين بضرورة حصر الدين في الحيز الخاص دون الحيز العام، أشارك النظرة إلى التمايز الذي ركزت عليه الوثيقة بين الكنيسة والدولة وكذلك الاستقلالية. ولعلّ ذلك يوفّر إمكانية أن تحذو حذو الكنيسة سائر الطوائف بإجراء هذا التمايز وهذه الاستقلالية دون إجراء الخلط بين الحيّزين بما يضرّ بالدين ويسيء إلى الدولة لا بل يعطل قيامها ويؤدي إلى هلاك فكرة العيش المشترك... إنني معني بمشاركة المسيحي في الحياة السياسية لأن حياتنا السياسية لا تستقيم إلا بمشاركة جميع شرائح المجتمع اللبناني المتنوع. ولا أغالي إن قلت إن الحياة السياسية اللبنانية لم تصب بالضرر مثلما أصيبت يوم قررت بعض القوى المسيحية مقاطعة الانتخابات. وأحسب أننا قد عانينا من هذه المقاطعة ما يزيد عن العشر سنوات. أقول هذا القول وأعرف مسبقاً أن النقد في لبنان يأخذ بعداً طائفياً بحيث لا يستطيع من هو ليس من الطائفة توجيه نقد إلى تصرف قام به أفراد من هذه الطائفة.
إنني معني أيضاً بالدولة المدنية التي تحاول هذه الشرعة المناداة بها دون العلمنة، على الأقل مرحلياً، وأظن أن الدستور اللبناني يروم إلى إقامة هذه الدولة المدنية على اعتبار أنه لم يعيّن ديناً للدولة وإن كانت الدولة تؤدي فروض الإجلال لله تعالى وتحترم جميع الأديان وتخصهم بميادين محددة تحت سقف القانون: في الأحوال الشخصية والتربية وحرية المعتقد وسوى ذلك.
أما لبنان وخصوصيته فإنني منحاز كلياً لهذا النص وقد رأيته منسجماً مع وثيقة الوفاق الوطني في تعداد وتكرار المبادئ العشر الجوهرية في مقدمة الدستور، والتي أحسب أن غبطة البطريرك الماروني قد شارك أساساً في وضعها وصوغها. ولعل التأكيد على ميثاق العيش المشترك والصيغة وتقديم النموذج اللبناني إلى العالم كقيمة حضارية ودوره كجسر عبور بين الشرق والغرب والحث على التربية على المواطنية، واعتبار هذا النموذج علامة رجاء مرفوعة للجميع، وضمانة للأقليات المسيحية في بلدان الشرق الأوسط، مما يضفي على لبنان وعلى هذه المنطقة معنى لا شك إذا لم تتوافر، يفقد هذا الشرق نكهته ولبنان معنى وجوده. ويأتي انحيازي لهذا النص من موقعي أيضاً كمنتمٍ إلى أقلية وإن كانت لم تبالغ في إظهار شعورها الأقلوي على النحو الذي يظهره المسيحيون على اعتبار أن تاريخنا في هذا المشرق العربي كثيراً ما مَوْضَع الطائفة ضمن الأكثريات وهي لذلك سلكت مسلك الأمان والبقاء والاستمرار والاستثمار.
وقد لفتني في الحديث عن إعادة إحياء لبنان والدولة المدنية الديموقراطية إقرار الشرعة الشراكة الوطنية التامة بين المسلمين والمسيحيين. ولا أخال أحداً من اللبنانيين غير هؤلاء المرتبطين أساساً ببعض السياسات الخارجية إلا ويثني على هذه المبادئ التي تحصن الواقع اللبناني وتسعى إلى إقامة الدولة وقفل الساحة وإسقاط منطق الدويلات. وهل يستقيم قيام الدولة بوجود دويلة أو دويلات أو مربعات أو أن يبقى لبنان ساحة مفتوحة لمن يدفع أكثر ولمن يرغب في إيصال الرسائل الإقليمية أو الدولية؟ لكن السؤال المطروح هل اللبنانيون جميعهم مؤمنون فعلاً بهذه الشراكة الوطنية المتساوية في الحقوق والواجبات التي نصت عليها هذه الشرعة أم أن بعضهم لم يعد يقيم اعتباراً لها وهو يحاول أن يملي على الآخرين موقفه والآراء؟
وإذا كانت الشرعة قد حددت 31 مادة فيها المبادئ العامة وبعض موادها دخل حتى في تفاصيل تقنية مثل موضوع الانتخاب، إلا أنها جاءت مستكملة للأسباب الموجبة ومنسجمة معها، والتي سبق الإشارة إليها في المقدمة.... وهنا لا بد لي من أن أبدي الملاحظات العامة التالية:
-1 إن اجتماع المسيحيين بالرغم من الفوارق اللاهوتية على وضع شرعة للعمل السياسي وفي النظرة إلى السياسة يعني أن هاجس الحرية لدى اللبنانيين المسيحيين يعلو على ضرورة التمييز بين المدينة الأرضية والمدينة السموية التي أتت بها تعاليم الكنيسة والرسل.
-2 الشرعة توحي أن اهتمام المسيحيين بتحديد أطر العمل السياسي اللبناني يتصل أيضاً بقاعدة فهم للمسيحية بأنها أيضاً دين الدنيا ودين الآخرة وهي بذلك تتشارك مع الإسلام في هذا المسلك. هل هذا الفهم في محله؟
-3 إن المسيحيين الحريصين على دورهم الرائد في لبنان قد أدركوا مرحلة من الوعي الجماعي السياسي بحيث لا يرون حرجاً في إجراء عملية تحول عميقة نحو التدقيق بالأسباب والعوامل التي أدت بهم في لبنان إلى التحول من الجماعة السيدة في النظام السياسي إلى جماعة تطلب المشاركة فيه.
-4 إن المسيحيين مصرون على عدم الانكفاء إلى الشعور الأقلوي المستتبع بفعل إطلاقهم المبادرات ووضع الأدبيات وصوغ الآليات التي تحفظ للكيان اللبناني تألقه الفريد في هذا الشرق العربي الواسع.
-5 إن الجماعة المسيحية التي لاحظت تدني مستوى العمل السياسي اللبناني بصورة عامة والمسيحي على وجه خاص تحاول أن تضع سلسلة ضوابط بحيث تعيد إلى السياسة اعتبارها كفن شريف لخدمة الإنسان والخير العام وهي لذلك تلحظ الفارق بين الشرعة كفكر سياسي خلاق وبين الممارسة السياسية لبعض المسيحيين بما يتناقض مع أحكام هذه الشرعة.
-6 إن لبنان بالنسبة للمسيحيين ذو هوية متميزة يجب أن تكون في صلبها قضية الدفاع عن حقوق الإنسان في لبنان والوطن العربي وصون العيش المشترك المسيحي والإسلامي ومبدأ الانفتاح الحضاري وتلاقي الحضارات.
-7 وأخيراً إن حفظ الهوية اللبنانية والشخصية المسيحية لا يقوم إلا في نطاق العيش المشترك الإسلامي - المسيحي.  
لا أظن أن أحداً من اللبنانيين يستطيع أن يأخذ موقفاً معادياً لهذه الشرعة ولكن لا بد من طرح بعض التساؤلات. هل هذه الشرعة ممكنة التطبيق في ضوء الوقائع السياسية التي نعيشها؟ هل هي دعوة موجهة إلى المسيحيين والمسلمين أي إلى عموم اللبنانيين وهي من طرف مسيحي فمن باب أولى أن يعتمدها المسيحيون أولاً؟! وهل الطبقة السياسية في أيامنا هذه معنية بالسياسة على أنها فن شريف في خدمة الإنسان والخير العام أم أنها فن الممكن في إدارة الصراع بين المنافع والمحاصصة المتضاربة؟ وهي على أي حال لدى غالبية هذه الطبقة حرفة تمكن السياسي من الاستفادة من ظروفها لتحقيق غايات ومآرب شخصية وطائفية. وكم من أفراد الطبقة السياسية المسيحية والإسلامية يستطيعون التقيد بأحكام هذه الشرعة وبعضهم قد ربطوا أنفسهم بالخارج ويستدرجونه للتدخل في الشأن اللبناني لدعم موقفهم سياسياً ومالياً؟ هل ثمة رغبة حقيقية لدى بعض السياسيين بإقامة الدولة التي لن تقوم إلا على حساب دويلاتهم؟ فأين هي مصلحتهم إذاً؟
إن إقامة الدولة تعني نهاية الإمتيازات ووقف إمدادات المال التي تمكنهم من إفساد الناس وكذلك إلغاء حصرية التمثيل للطوائف فتغلق الدكاكين والمربعات لتقوم الدولة الجامعة. هل يقبلون بهذه الشرعة وهل من مصلحتهم القبول بها؟ ولكن يزين لي أن كثيراً من مرامي هذه الشرعة يتفق إزاءها المسلمون والمسيحيون معاً وبالفعل. 
-1 إن المسلمين اللبنانيين في غالبيتهم يشاطرون المسيحيين ضرورة الحفاظ على لبنان المتنوع والمتعدد حيث الحرية علة وجوده ويدعون، شأنهم شأن المسيحيين، إلى عروبة متنورة تقبل التعدد ويشكل فيها الإسلام والمسيحية عنصرين مكوِّنَيْن.
-2 إن خطاب المسلمين في لبنان ليس واحداً إزاء الأمور المصيرية والهواجس الطائفية، ولعل الأبرز هو إبداء بعض القوى السياسية الإسلامية اللبنانية تعلقاً صادقاً بلبنان المتنوع رافعة شعار لبنان أولاً، وهذا أمر مستجد بدأت طلائعه تسمع في الخطاب السياسي الإسلامي بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري دون التقليل من أهمية رجالات كبار مسلمين طالبوا بذلك منذ الإستقلال. ولكن في الأوساط الإسلامية أيضاً خطاب آخر ينظر إلى مشاريع سياسية ذات طابع ديني مستعيدة طروحات سابقة أنهكت حرية لبنان وعبثت بديموقراطيته وأهلكت التعددية فيه. والمفارقة الغريبة أن الديموقراطية وهامش الحرية في لبنان هما اللذان أعطيا مثل هذه الجماعات حرية الحركة لإثبات وتعزيز وجودها وهي تحاول أن تجر لبنان إلى اعتماد نماذج عربية قهرية وتسلطية دينياً وسياسياً... إن فهمنا للعروبة على أنها مشروع حضاري لا يرهب الأقليات بل يتسع لها جميعها. وفهمنا للحرية الدينية وللبنان نموذجاً يتشارك فيه المسلمون المعتدلون الذين يبتعدون بمواقفهم عن التبرير السلفي للاستبداد السياسي.
لكن هذين الأمرين لا يحولان دون طرح تساؤلات أخرى حول موقف بعض المسلمين. هل إن الشريك المسلم يرغب في إجراء الفصل والتمايز بين الدين والدولة ومفاهيمه مختلفة في الحاكمية وإن كانت الشرائح الأوسع من المسلمين اللبنانيين لا تشارك بعض الفئات المتطرفة في اعتماد هذا المبدأ؟ هل المسلمون يشعرون أنهم معنيون بإقامة هذه الدولة المدنية التي ترتكز على عدم الاستقلالية في الشؤون الأرضية ولا يفصلون بين الواجب نحو الدولة والواجب نحو الله؟ على أي حال وإزاء التطور الكبير الحاصل في الموقف الإسلامي تجاه لبنان وتقديم مصلحته على ما عداها يجدر السؤال هل وفر بعض السياسيين المسيحيين للمسلمين هذه الفرصة في التلاقي مع أمور ناضل في سبيلها المسيحيون عشرات السنين، وعند تلاقي المسلمين بغالبيتهم مع هذه الطروحات ذهب بعضهم في اتجاهات مغايرة بل خطيرة؟
من موقعي أحسب أن هذه الشرعة تصلح لجميع اللبنانيين ولو حل محل عنوان التمايز والتعاون بين "الكنيسة والدولة" عنوان آخر يشمل الدين والدولة ومحل "المسيحيون والعمل السياسي" "اللبنانيون والعمل السياسي" مع إدخال بعض التعديلات في النص ذات الطابع الديني المسيحي الصرف مثل " المعمودية" و"طبيعة المسيح الرب المثلثة"... "القيم الإنجيلية" وغيرها. أما سائر العناوين والمضامين فقد رفعت الشرعة النموذج اللبناني إلى المصاف الذي يستحق مشروطاً برفع اللبناني أداءه إلى مستوى هذا المصاف وفيها برنامج حكم تتوافر مقوماته وجاءت نتيجة الأزمات التي عصفت بالنظام السياسي اللبناني، من مثل آليات عدم تعطيل المؤسسات الدستورية وتحييد لبنان وتحقيق اللامركزية الإدارية الموسعة واللاحصرية وتعزيز الحياة الاقتصادية والاجتماعية وإصلاحها ومحاربة الفساد وتعزيز مساهمة المرأة والاهتمام باللبنانيين المنتشرين.
ونحن على عتبة انتخابات نيابية يضمر كثيراً عدد المرشحين إذا صار العمل بما نصت عليه الشرعة "أن يكون المرشح إلى هذه الانتخابات ولاؤه أولاً وآخراً للبنان" و"أن يكون مدركاً قيمة لبنان كوطن مميز بخصوصيته"... و"أن يكون المرشح ذا ماضٍ يثبت في الأقوال والأفعال والمواقف هذا الولاء وهذا الإدراك"... من يبقى من هؤلاء المرشحين في السباق، ومن هي الجهة التي تقبل وترفض الترشيح خاصة أولئك الذين كان شرط ترشيحهم عبادة الزعيم بغض النظر عن ولائه وإدراكه لمعنى لبنان؟ وهؤلاء موجودون في جميع الطوائف وليسوا في طائفة معينة حصراً. لكن أهميتها تكمن ونحن عشية الانتخابات في أنها تشكل مرجعية معنوية للناخب اللبناني علّه يستقي منها معايير حسن الاختيار.
 أحيي مَن فكّر وشارك وصاغ وحدد مفاهيم هذه الشرعة كما أحيي اجتماع الكنائس المسيحية في صوغ أدبيات السياسة في لبنان، وأحسب أن هذه الشرعة بأقسامها الثلاثة تشكل مدونة سلوك لكل من يروم العمل السياسي مسيحياً كان أم مسلماً ولكن هل لها من مجال وفرصة للتطبيق؟ أم أنها ستكون وثيقة إضافية يهملها السياسيون كما أهملوا اتفاق الطائف وكما البعض أهمل الإرشاد الرسولي والبعض الآخر أعمال المجمع البطريركي وحتى اتفاق الدوحة وسائر المواثيق والعهود؟ فعوض اعتماد سياسية الإعمال تم اعتماد سياسة الإهمال. إن حيوية هذه الكنائس جديرة بالاحترام والتقدير، وأتساءل حبذا لو قام المسلمون، ونحن منهم، في السعي لإعداد وثائق مماثلة يحتاج إليها لبنان علنا نلاقي بعض تفكير إخواننا المسيحيين لأن لبنان لا يقوم إلا على وفاق جميع اللبنانيين وهذا الوفاق هو الوحيد الذي يمكّننا من إقامة الدولة وصون سيادتها وحفظ استقلالها وعبثاً نحاول مشاريع فئوية فإنها لا تقوم ولا تستقيم و قد أعطتنا عبر التاريخ الأمثلة الصارخة في تجربة بعض الطوائف الهيمنة على الآخرين وإعاقة إقامة الدولة فكان نصيبها الفشل والفواجع. هل من أمل في أن ينحاز اللبنانيون إلى هذه الوثيقة أم أن بعضنا ستبقى السياسة بالنسبة إليه بالروح بالدم...
(•) نص مداخلة في الندوة حول "شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان" بدعوة من المركز الماروني للتوثيق والأبحاث بالتعاون مع اللجنة المشتركة لكنائس لبنان في 05/03/2009 في قصر المؤتمرات – ضبيه.

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…...

 الخميس 19 أيلول 2024 - 11:53 ص

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…... The economy is cen… تتمة »

عدد الزيارات: 171,390,204

عدد الزوار: 7,630,679

المتواجدون الآن: 0