الهذيان
الأحد 1 تشرين الثاني 2015 - 6:26 ص 342 0
الهذيان
محمد سرور
العاصفة التي أثارها تصريح بنيامين نتنياهو خلال مؤتمره الصحفي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حول مسؤولية الفلسطينيين عن المحرقة أثارت الرأي العام الصهيوني من خلال تحميل ألمانيا النازية المسؤولية المباشرة والغير مشكك بمصداقيتها التاريخية من خلال الشواهد التي لا ترقى إلى أي مستوى من الشك.
المستشارة الألمانية ذهلت عند سماعها تصريح نتنياهو وبالطبع لم تصدّقه هي الأخرى وبالطبع أيضًا لم تخفف عنها ذلك العبء الأخلاقي الذي سوف تتوارثه الأجيال الألمانية على مدى الزمن.
صحيح أن هناك من اعتبر كلام رئيس حكومة العدو "هذيانًا لا يمكن قبوله" أو "كذب مكشوف لا يستحق مجرد التعليق عليه"، أو "تزوير لتاريخ لا شك في حقيقته"، أو " منح مادة كبرى لناكري المحرقة" بحيث أن هناك من سأل " هل يملك نتنياهو محضر لقاء المفتي الحسيني مع هتلر"؟ و "ما مدى تأثير سماحة مفتي فلسطين على هتلر وبالتالي إقناعه بأن يقوم بمجزرة على مستوى المحرقة"؟ لكن من حقنا أن نشتمَّ رائحة خطر حقيقي من هذا التصريح الخارج على كل مألوف. لماذا؟
لأن نتنياهو الذي سنَّ القوانين العنصرية ومنح اليهود كل حقوق التصرف الإجرامي بحق الفلسطينيين وأرضهم، والذي جرَّد هؤلاء من أي حق لهم بالإعتراض والنضال- حتى السلمي منه- يقف اليوم هو وشلته المجرمة من العنصريين القاطعين في إنكارهم لأي حق للسعب الفلسطيني عاجزين- مذهولين- مذعورين من الغضب الذي بلغ حدّا لم يعهده الصراع فوق أرض فلسطين منذ قيام الكيان الصهيوني الغاصب.
ولأن نتنياهو الذي يملك جيشًا مسلحًا بأقوى وأفظع أدوات القتل والتدمير يواجه مقاومة باسلة- عظيمة الإستعداد والتضحية بالنفس- ناقمة إلى حدّ لا يمكن وصفه لا يملك قوة ردعها وهزيمتها وفرض أجندته الإجرامية دون ثمن كبير يدفعه.
إذن نحن أمام حالة خروج عن الطور، حالة انعدام قدرة للخيال الصهيوني- المبدع في القتل وتبرير القتل- على إيجاد الحل الناجح ضد الذين فقدوا كلّ أمل بتغيير العقل الصهيوني إلى مستوى يمكن لهذا العقل أن يستوعب حق الشعب الفلسطيني من العيش بكرامة ومن إقامة دولته التي مثلت شرط قيام الكيان الصهيوني في حينه وإلى الأبد.
لقد اعتبر نتنياهو- ومعه شلة من الوزراء والحزاب الصهيونية أن إسرائيل بمأمن عن كل أسباب الخطر وأن باستطاعته فرض أجندته في تغيير الوقائع على الأرض الفلسطينية التي تفقد الشعب وقيادته أي أمل بقيام الكيان الفلسطيني وبالتالي تنضج شروط "أبرتهايد" أو "محرقة" تاريخية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل والضعيف والمعدوم الحيلة والقوة لكي يقام الكيان الصهيوني النقي دينيا من أي عنصر ديني آخر.
هناك نقمة عالمية على سياسات الحكومة الإسرائيلية- طبعا باستثناء الولايات المتحدة. العقل الإسرائيلي المنفتح والمعتدل يرى بذلك شرًا، لأن نتائجه تضرّ بإسرائيل ومصالحها وعلاقاتها مع العالم، وتضرّ بصورتها التي طالما شدد الصهاينة على ربط نموذجها وقيمها بالنموذج الغربي الديموقراطي المتوافق مع القيم الإنسانية والقانونية.
غياب القوى الوسطية واليسارية في إسرائيل أفرغ المنظومة السياسية الإسرائيلية من الخطاب القادر على التواصل مع الغرب وفق المنطق الذي يثق به ويسهّل وصول الموقف الإسرائيلي إلى الغرب- أنظمة وشعوبًا.
المراقب للتحوّل الذي طغى على المجتمع الإسرائيلي عامة- ومعه بالطبع النظام السياسي منذ نهاية الألفية الثانية يظهر مدى سيطرة اليمين الديني على بنية المجتمع الإسرائيلي، يقابله ضمور واضح في بنية القوى العلمانية- كحزب العمل مثلا، فيما القوى الإسرائيلية الأخرى التي إلى يمينه ليست بعيدة- بالمعنى السياسي عن الفكر النتنياهوي الملتبس بين العلماني والديني.
بعض المراقبين يرون أن ثمة تبدل بنيوي عميق آخذ في التشكّل داخل المنظومة الصهيونية ككل، يقابله تحييد وغياب واضمحلال واضحين للثقافة التاريخية التي شكلت احد ركني الفكر الصهيوني، ألا وهي العلمانية. نحن الآن نقترب من صهيونية دينية تقوم على أساس تلمودي يرتكز على التزام الأصولية ببعدها الذي يعنصر- من عنصرية- إلى الحد الذي لا مجال فيه لأية تسوية مع الآخر- خاصة الأفكار المتطرفة من الجانب الآخر والآخذة من البعد الديني مرتكزاتها السياسية وخطابها الذي يبادل النبذ بمثله.
الرئيس محمد عباس الذي يعي بشكل دقيق وعميق مسار الواقع السياسي الإسرائيلي بقيادة العصابة اليمينية التي يرأسها متطرف كنتنياهو كان دقيقا جدا حين قال لرئيس وزراء حكومة العدو "النصرة وداعش عندك". أي أن عصابات الإستيطان، التي باتت تشكل عصب الفكر السياسي الإسرائيلي حاليا، هي الأساس النموذجي الذي تُقارن به النصرة داعش في المقلب العربي.
وللتصريح بلاغة أبعد من الظاهر الحرفي للكلمة، حيث أن النصرة وداعش عدوّان للشعب والحكومات العربية- وذلك هو الأهم، فيما المستوطنون للأرض الفلسطينية هما بالنسبة لنتنياهو القدوة الدائمة كونهم الأكثر جدّية في ترسيخ إسرائيل- التاريخية وفق الفكر التوراتي. لذلك فإن كل اتهام يوجه للشعب الفلسطيني وقيادته مردود على مطلقيه الصهاينة، وبذات المستوى يعطي شرعية إضافية للمدى النضالي الفلسطيني أمام عقل صهيوني لا يقر أبدا بأي من الحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني.
وإذا كانت قوى الإستيطان التي يرعاها ويحميها ويشجعها نتنياهو تشكّل نموذجه الوحيد، فعن أي سلام يتحدَّث؟
وإذا كان هؤلاء عصارة المعنى الأصلي لكلمة إرهاب، فعن أيِّ إرهابٍ يتحدَّث رئيس حكومة الإحتلال؟
لذلك فإن الخوف- كل الخوف- من أن يكون إلقاء نتنياهو مسؤولية المحرقة على الفلسطينيين هو توجّه جديد- بالمعنى السياسي العميق للكلمة- نحو وتيرة اعلى من الجرائم وتمهيد جدي وخطير للوجود الفلسطيني- بالمعنى الكامل للكلمة.
نعرف جيدا قوة الفلسطيني على التحمّل والصبر واشتقاق المعادلات النضالية التي تتناسب وكل مرحلة يعيشها هذا الشعب. كما ونعرف ايضا أن ما راكمه الشعب الفلسطيني من تجارب ومن صولات وجولات نضالية وتضحيات لم يقدّمها غيره من الشعوب تجعنا نطمئن على مستقبل فلسطين وقضيتها. لكن مراقبتنا وقراءتنا للسياسة الإسرائيلية الذاهبة بعيدًا جدا في السلوك الإجرامي والنفي الأخلاقي لارتكابات يندى لها جبين الإنسانية، مترافقة مع جدار عزل سياسي استعماري أعلى وأسمك من جدار الفصل العنصري، يجعلنا نذهب بعيدًا في تقديرنا للمخاطر التي تنتجها مثل تلك المواقف.
شعب فلسطين فاجأهم- أي أنه فاجأ كل من لم يعرف هذا الشعب جيدا. غصبًا عن الصهاينة والأميركيين والعرب المنشغلين بسلخ فروات رؤوس بعضهم البعض أعاد هذا الشعب قضيته إلى رأس قائمة الإهتمامات والإعلام والضمائر التي تبلدت وتكاسلت ردحًا طويلا من الزمن. فهي أعادت تشكيل صورة الصهيوني بملامحها الإجرامية- التوسعية غير المكترثة لأي معنى أخلاقي- قانوني أو إنساني. وبذات القدر أعاد النضال الوطني الفلسطيني- بواسطة الحجر والسكين والأغنية الوطنية عقارب الزمن إلى كونه سيد النضال والعطاء وعدم الإستسلام في العالم. لماذا؟ لأن الفلسطيني- المتروك وحده لقدره، يواجه وعلى المستوى التاريخي- ليس الذي مرَّ فقط، وإنما للآتي منه أيضا، مشروعًا أيديولوجيا- إستراتيجيا لا يهدأ ولا يستكين، مشروعًا مُمستلهما من تجربة الغرب مع الهنود الأميركيين. أكثر من مئتين وخمسين عامًا احتاجه الغرب لتصفية أكثر من 75 مليون هندي احمر في القارة الأميركية. وبالمناسبة: عندما بدأت بوادر الهويمة تظهر على الهنود المنهكين آنذاك رفع المستعمرون قيمة قتلاهم بحيث صار على القبيلة أن تدفع وزن القتيل ذهبًا، وبذلك عمَّ الفقر مجتمعات قبائل الهنود الحمر الذين باتوا عاجزين عن الصيد والزرع والنضال... ولم يعد امامهم سوى الإستسلام للمستعمرين.
إن سياسات الحكومة الصهيونية تجاه النضال الوطني للشعب الفلسطيني هي نفسها- نعم هي نفسها، مع فارق الزمان والمكان والمعطيات والأدوات التقنية. فتقييد الشعب الفلسطيني بقوانين المعاقبة على مستويات الإعتراض بالحجر والسكين والرصاصة ومحاصرته الدائمة لمنعه لحصر آليات عقله بالماء والطعام وهموم الحياة اليومية ومتطلباتها يقود هذا الشعب إلى الفقر العميق- البعيد... لكن ورغم ذلك لن يمرَّ مشروع تصفية القضية الفلسطينية... مهما اسالهم الصهاينة من نماذج عقاب وتخويف وحصار، لأنه شعب فنّان باشتقاق معالادت النضال والصمود والمواجهة.
نتنياهو ومعه عصابات داعش والنصرة من المستوطنين لن يحصدوا إلا الخوف والرعب من فدائيين غير مكترثين... لأنهم يدركون أنهم لن يخسروا إلا قيودهم... يوم الحرّية آتٍ... لا محالة آتٍ.