قراءات إسرائيليّة في الهبّة الفلسطينيّة
الأربعاء 18 تشرين الثاني 2015 - 7:07 ص 370 0
قراءات إسرائيليّة في الهبّة الفلسطينيّة
ماجد كيالي
ما عاد مجدياً، ولا صائباً، تناول وضع الفلسطينيين بمعزل عن وضع إسرائيل والإسرائيليين، وبالعكس، بغض النظر عن رأينا بالمشروع الإسرائيلي، أو نظرتنا الى لا شرعيته التاريخية والأخلاقية، كما نظرتنا وحتى رغباتنا في خصوص مآلاته. وفي الواقع، فنحن اليوم إزاء واقع ثنائي «القومية»، لجماعتين بشريّتين متمايزتين من نواح كثيرة، وضمنه من ناحية السردية التاريخية، ونظرة كل منهما إلى الآخر، ومع ذلك فهاتان الجماعتان تتعايشان معاً، في الإطار السياسي والاقتصادي والقانوني والمعاشي ذاته، ولو أن ذلك يحصل رغماً عنهما، وفي صورة تنابذية أو عدائية، بخاصة أن ذلك يجري ضمن تراتبية المستعمِر والمستعمَر.
ثمة عاملان أساسيان يتحكمان في هذا الوضع، الأول، يتشكّل من الصدّ أو النبذ العربي للفلسطينيين، سواء فلسطينيي 48 أو الضفة وغزة أو اللاجئين، ما يتمثّل بعدم القابلية لهضمهم، أو للتعامل معهم بوصفهم عرباً (أو حتى أجانب)، لا سيما أننا إزاء بلدان تشكو من تصدعات داخلية، كما من تغييب مكانة «المواطن» فيها. والثاني، حجم آليات الاستيعاب والإزاحة الإسرائيليين، التي تعمل بطريقة متناقضة ومتكاملة، فمن جهة التعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم مجرد سكان وأيدٍ عاملة، ومن جهة أخرى إزاحتهم من المكان والزمان، للحلول مكانهم. لكن حتى هذه العملية تشكل مأزقاً لإسرائيل، إذ إن الفلسطينيين لا يتملكهم شعور الأقلية، وإنما شعور الغالبية، وشعور أصحاب الأرض الأصليين، الذين يرفضون أن يذوبوا أو أن يخضعوا، ما يضع إسرائيل أمام مشكلة تاريخية، فهي عاجزة عن هضمهم ولفظهم، ما يؤثر فيها وفيهم، بغض النظر عن واقع القوة، وهكذا.
هذا الوضع المتناقض كشفت عنه مجدداً الهبة الفلسطينية، التي جاءت بعد انتفاضتين طويلتين ومكلفتين بالنسبة الى إسرائيل، في طرحها السؤال عن طبيعة إسرائيل بين كونها دولة عنصرية، باعتبارها ذاتها دولة يهودية، وبين كونها دولة ديموقراطية لكل مواطنيها.
هذا المأزق يمكن ملاحظته في آراء النخبة الإسرائيلية التي تتحدث من دون مواربة وبمعزل عن الاعتبارات التي تحكم الطبقة السياسية. فأوري سافير، الأكاديمي وأحد صناع اتفاق أوسلو، يقول: «نحن نعيش اليوم في كابوس، ليس بسبب حملة السكاكين، بل لأن العنف الذي يجري تعبير عن واقع جديد لدولة ثنائية القومية... من دون مسيرة سياسية جدية نحو حلّ الدولتين، فإن الفلسطينيين بكل فصائلهم سيقاتلون في سبيل استقلالهم... التدهور الأكبر هو انضمام كثر من عرب إسرائيل إلى الصراع... الحكومة تجلب علينا خليطاً من الكفاح الوطني (الفلسطيني) مع نوع من الحرب الأهلية... في واقع دولة ثنائية القومية» («معاريف»، 2/11). وهذا آري شبيط يؤكد الخشية من «تحوّل الاحتلال الى أمر لا رجعة عنه... واختفاء «دولة إسرائيل السيادية داخل «أرض إسرائيل الثنائية القومية» التي تشبه «آرلندا الشمالية وجنوب أفريقيا أو البلقان». ويستنتج من ذلك كله صورة قاتمة، إذ إن «مشروع «غوش إيمونيم» تغلب على دولة إسرائيل، وشكل واقعاً ثنائي القومية، لشعب يعيش داخل شعب آخر، وشعب يعيش فوق شعب بدلاً من شعب يعيش الى جانب شعب... بعد أن استطعنا تأسيس دولة يهودية ديموقراطية... قمنا بإلغائها... وحوّلناها الى سجن للحريات واحتلال. الكارثة التي نعيش... لا يجب نسبتها الى أصحاب السكاكين... الذي نعيشه هو نتيجة مباشرة ولا يمكن منعها للجنون السياسي الذي يمتد منذ أربعين سنة. ماذا اعتقدنا عندما ذهبنا الى يتسهار وايتمار؟ ما الذي توقعنا حدوثه عندما مسحنا حدودنا وشوشنا سيادتنا وخلقنا واقعاً من الحرب الأهلية المتواصلة؟... في ظل غياب الحدود الفاصلة سيدخل الإسرائيليون والفلسطينيون الى حمام دماء. إذا لم يتم نبذ إسرائيل مثل جنوب أفريقيا فسيحدث مثلما حدث في كوسوفو... هل سنصحو حيث ما زال يمكن إطفاء الحريق أم عندما يلتهم الحريق كل البيت؟» («هآرتس»، 23/10).
أما عميرة هاس فترى مأزق الكولونيالية الإسرائيلية بقولها: «المتظاهرون الفلسطينيون ينتصرون على الجيش الإسرائيلي وحرس الحدود، وهم مسلحون بالكوفية وسرعة الحركة والحجارة وزجاجات المولوتوف... على أولئك المسلحين بالتدريبات العسكرية والآليات المصفحة والطائرات من دون طيار وبالسلاح الحي القاتل والغاز المسيل... أمام شجاعة الشبان الفلسطينيين يتكشف الجنود الإسرائيليون بخوفهم، وتم تدريبهم ليشعروا بالقوة والبطولة من الطائرات والدبابات، وفي غرف التحقيق... بالاقتحامات الليلية للبيوت واعتقال الأطفال من أسرتهم، في الجيبات المصفحة... هذه الجرأة والشجاعة تنتقل من جيل إلى جيل. طالما أن الأسباب لم تختف» («هآرتس»، 2/11). وهذا ما يكرره جدعون ليفي، فبالنسبة إليه «إسرائيل خسرت مرة أخرى: قيمها آخذة في التلاشي بسرعة مخيفة لم يسبق لها مثيل... من يدهس شاباً وبعد ذلك يضربه، من يهدّد بالتدمير الجماعي بالغاز ومن يهاجم الطواقم الطبية والصحافية هم مواطنون ضائعون. برابرة. ومن يحميهم أو يسكت عنهم هو مثلهم» («هآرتس»، 2/11).
في خضمّ هذا النقاش، طلع نتانياهو بقصة التخفيف من مسؤولية هتلر عن «المحرقة»، وإحالتها الى المفتي، كعادته في تزوير الحقائق وتزييف التاريخ، كي تتلاءم مع مصالحه السياسية. عموماً، فقد جلب ذلك عليه غضب كثر، من الذين رأوا فيها تقويضاً للرواية الإسرائيلية عن المحرقة، وإعفاء لهتلر. تقول أبيرما غولان: «لا يجب الانفعال أمام سخافة ابن المؤرخ ومعرفته... إسرائيل لم تعد دولة سيادية بل شتات يهودي يائس ومزعزع، تقودها ميليشيات انتقامية تنتقم من الأعداء الأغيار الذين يتبدلون، مرة يكونون بولنديين ومرة عرباً... هذه هي طريقة نتانياهو» («هآرتس»، 23/10)، بينما قالت سيما كدمون: «نحن ملزمون الاعتراف بأن الغباء ليس الميزة التي تعزى الى نتانياهو... ومع ذلك فسلوكه... في الفترة الأخيرة، يشجع على إعادة التفكير... هذه القصة الغريبة عن هتلر والمفتي هي مثل على أن الهستيريا تتغلب أحياناً على الهستوريا (التاريخ)... ما قاله نتانياهو سقط كثمرة ناضجة في أيدي ناكري الكارثة... المشكلة ليست فيه، بل فينا». («يديعوت»، 23/10). بل إن تسيفي ريخلفسكي طالب بإقالة نتانياهو «الشخص الذي يقول إن هتلر لم يرغب في تدمير اليهود... الذي حرض على القول «بالدم والنار سنطرد رابين»... الذي أجّج الجموع الغفيرة على الصراخ بهلوسة «رابين خائن»... الذي يحرض ضد حق التصويت لـ «عرب إسرائيل»... الذي يقول أن إسرائيل يجب أن تسيطر على الأراضي كافة وأنها ستعيش على السيف الى الأبد... الجدير استبداله والذهاب الى الانتخابات... أوقفوا الساعات لقد انتقلنا الى كوكب آخر» («هآرتس»، 29/10).
* كاتب فلسطيني سوري